Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Le blog d'education et de formation

الذكاء الاصطناعي : هل هو تيكنولوجيا رمزية ؟

18 Mai 2009 , Rédigé par mazagan Publié dans #مقالات واخبار

أما قبل:http://www.ahewar.org
من الأشياء التي أثارت دهشة الجميع منذ نهاية القرن العشرين ، هو ما توصلت إليه علوم الهندسة الوراثية من إمكانية عالية المستوى في استنساخ الجينات الوراثية. وبالأمس القريب لم يكن يخطر على بال أحد تحقيق هذه الإمكانية. لكن ومع التقدم التكنولوجي السريع أضحى من باب الممكن جعل أسطورة الاستنساخ حقيقة وليست خيالا.
فلا يحسبن أحد أن مسألة الاستنساخ هذه مقصورة على الهندسة الوراثية وهندسة الجينات وحدها فحسب، بل إن استنساخ الكائن البشري على مستوى المعرفة في صورة كائن اصطناعي هي أكثر المجالات إمكانية لهذا، وربما أكثر مشروعية ولا تثير أي جدل أخلاقي.ومع التقدم الهائل للعلوم والمعارف والتقنيات تيقن الإنسان أن شبحه الأسطوري بدأ يحبو ويكبر. إنه الصنيع الذي سيحول أسطورة إيروس الحب إلى أسطورة أخرى للاستنساخ والنمذجة والتقييس قصد ولوج الألفية الثالثة متوجة ب "الزواج التكنولوجي" أو زواج الإنسان بالآلة.
إنها النبوءة التي بشر بها أهل الذكاء الاصطناعي وهندسة المعرفة وعلماء الوراثة والبيولوجيا والرياضيات وغيرهم. اجتهدوا منذ عهود خلت إلى يومنا هذا فقدموا دراسات وأبحاث اتجهت إلى بحث الطريقة التي يعمل عليها وبها الدماغ البشري، وذلك قبل أن يتنبئوا بتطوير آلات ذكية تحاكي قدرات البشر الذهنية. كما بذلوا في سبيل تحقيقها المزيد من التجارب والأبحاث العلمية إلى أن تمكنوا من تطوير آلات إلكترونية هي بمثابة نماذج آلية تستطيع، كما يدعون، أن تماثل المخ في ذكائه وتفكيره ومعالجته للقضايا والنظريات وتقديم الحجج والبراهين، فحققوا ما بشر به العالم البريطاني الشهير ألان تورينغ قبل ظهور الحاسوب بخمسة عشر عاما ناكرين على الإنسان وضعه المتميز في احتكار ملكة الذكاء وكينونته الرمزية ، متحمسين إلى القول بمجيء يوم يتفوق فيه ذكاء الآلة على ذكاء الإنسان، تماما كما فاقت قوة الآلة الميكانيكية قدراته الجسدية. ويشاء الذكاء الإنساني إلا أن يبدع من يسلبه قوته الجسدية وقدرته الفكرية بتبرير واحد هو التقدم العلمي والتكنولوجي
أما بعد:
تروم هذه المقالة المتواضعة التي عنوناها بالذكاء الاصطناعي، هل هذه تكنولوجيا رمزية ؟ إلى تقديم عرض شامل عن هذا الصنيع، متناولا الموضوع من خلال عرض لمفاهيمه وأهميته التكنولوجية كإمكانية للمزيد من الخلق والإبداع في حضن ما آلت إليه تطورات التكنولوجيا. كما تهدف هذه الدراسة إلى عرض المحاكاة والنمذجة في أبهى حللها العلمية بالمقارنة بين الدماغ البشري والحواسب الراهنة، وعرض لمسات عن برامجه كالتمثيل الرمزي وبرامج الحدس والمراقبة وتمثيل المعرفة والتمثيل المنطقي لها.
سنشرع بدءا في تحديد مفهوم الذكاء وتعريفه وإلقاء نظرة تاريخية عنه وعن الجدل الذي دار حوله مع استعراض عناصره المتمثلة في التمثيل المعرفي والمنطقي وبناء قواعد المعارف والإضافة عليها كما سنتعرض إلى أهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي ومنها الإنسان الآلي والترجمة الآلية والنظم الخبيرة ومعالجة اللغات الطبيعية التي تقع ضمن الاهتمامات الكبرى للذكاء الاصطناعي نظرا لطبيعتها الرمزية.
1- تحديد الذكاء والذكاء الاصطناعي:
إذا كان الذكاء الاصطناعي بخلفياته المختلفة (علوم الحاسوب وعلم النفس واللسانيات والرياضيات والمنطق والفلسفة) يهدف إلى بناء نمذجة اصطناعية"للذكاء"، وكان بصفته علما معبرا عن اتجاه جديد متكامل المعارف، فإن هدفه الحقيقي هو فهم ملكة الذكاء لدى الإنسان في كل مظاهره ومستوياته. ولهذا ولأجل تبسيط القول أكثر في عملية تطبيق الذكاء الاصطناعي وجب الحديث عن الذكاء الطبيعي كتحديد مفهومي وعلمي على حد سواء.
1-1- تعريف الذكاء وتحديد مظاهره:
مما لاشك فيه، أن الذكاء هو من الخصائص المميزة للإنسان.حيث إنه حصيلة جملة من القدرات كالفهم والابتكار والتعبير. إنه، بلغة أخرى، ملكة الفهم عند الإنسان. فهم الأشياء والتعريفات المختلفة، بضبط الدلالة وتوضيح الأفكار والمعارف والقيام بالاستنتاج والاستدلال والتفسير والتحليل والتذكر وتحديد الأهداف ورسم الخطط وحل المشكلات وإدراك العلاقات. وعلى الرغم من التعقيدات التي أحاطت بالدراسات المتعلقة بماهية الذكاء، فقد وضعت تعريفات عامة له مستندة إلى هذه القدرات المنسوبة إليه. فهذا ترمان الأمريكي يعرف الذكاء بأنه القدرة على التفكير المجرد. وشترن الألماني يعرف الذكاء باعتباره القدرة العامة على التكيف العقلي للمشاكل ومواقف الحياة الجديدة. وكهلر الجشطلتي يصفه بأنه القدرة على الاستبصار عند الإنسان والحيوان. أما كلفن فيعتقد "أن الذكاء هو القدرة على التعلم"، غير أن جودارد الأمريكي يعطي رأيا مخالفا وهو أن الذكاء هو القدرة على الاستفادة من الخبرات السابقة في حل المشاكل الحاضرة والتنبؤ بالمشاكل المستقبلية.
فهذه تعريفات، كما يقول دكتور أحمد عزت راجح ، تعريفات متداخلة، حيث أنها تجمع كلها حول "مرونة التكيف للذكاء كما في اعتبار بيني الفرنسي الذي يلخص ذلك في أربع قدرات هي: الفهم والابتكار والنقد والقدرة على توجيه الفكر في اتجاه معين واستبقاؤه فيه مثل تنفيذ عدة أوامر متتالية الواحدة تتلو الأخرى .
إن الذكاء ليس عملية عقلية معينة فقط كالاستدلال والتذكر أو التعلم، بل إنه عملية شاملة أو قدرة عامة تأثر في جميع العمليات العقلية بنسب متفاوتة. بعبارة أخرى، إنه جوهر النشاط العقلي كله. فهو يظهر في جميع تصرفات الفرد وأوجه نشاطه مع وجود استعدادات نوعية إلى جانبه.
وإذا كان الذكاء هو ملكة الفهم وهو القدرة على الاستدلال والتوقع وحل المشاكل والتفكير بالتجريد وضبط الأفكار المعقدة وكذا هو القدرة على الحفظ السريع والاستفادة من التجارب السابقة للفرد، فإنه ليس قدرة مدرسية أو حتى ملكة أكاديمية أو مستوى من مستويات الاختبار. ولكنه مع ذلك يعكس لنا قدرته الواسعة والعميقة لفهم أشياء الكون ولمنح علاقاته معاني خاصة مع تصور الحلول العملية الممكنة لكل مسألة.
ومن هذا المنطلق، يكون الذكاء كمستوى قابل للقياس والدراسة. ولا عجب أن يزعم بعض العلماء الأنجلوساكسونيين توصلهم إلى نتيجة مغزاها أن جينات الوراثة تلعب دورا مهما في الحياة الثقافية للإنسان، وهي مقاسة باختباراتQI، وأنها كذلك مسؤولة عن الاختلاف بين الأجناس البشرية، ربما بين السود والبيض ، وما بين التوأمين اللذين تصل نسبة الجينات المتوارثة بينهما إلى 66% .
إن نتائج الأبحاث عن طبيعة الذكاء لم تكن إلا أن تشغل بال علماء النفس بأمرين رئيسين هما:
أولهما هو السؤال عما إذا كان الذكاء ملكة موحدة من ملكات النفس ؟ وعما إذا كانت قدرات الإنسان العقلية (مثل الإدراك والتخيل والتفكير والتعلم والتذكر وغيرها من قدراته الخاصة) كلها وظائف لهذا الذكاء ؟ أم أنها متمايزة بصورة نسبية أم مطلقة ؟وثانيهما هو السؤال عما إذا كان الذكاء كسبيا أم وراثيا ؟
إن هذه المشكلة قديمة قدم الإنسان المفكر وقدم النظريات الفلسفية. فإذا كان أرسطو أول من عني بالبحث عن طبيعة الذكاء، فإن علماء النفس في وقتنا الحاضر ما زالوا يبحثون عن الأجوبة العلمية لهذين الافتراضين ومن هؤلاء: الاتجاه البيولوجي بقيادة داروين وسبنسر. هذا الأخير اعتبر أن الذكاء قدرة عامة وموروثة لكن والحالة هذه، أن هذه الآلية لا تنمو في الواقع إلا تحت تأثير المحيط المناسب بمعنى أن فيها الكثير من التعلم . فعند الإنسان مثلا تحدث العمليات المتدخلة إلى حد بعيد في الجملة العصبية المركزية، ويكون هذا التدخل بين المثير والاستجابة لتكون عملية التفكير قمة هذه العمليات.
أما الاتجاه السيكولوجي فتقوم وجهة نظره حول الوظائف الإدراكية التي تميز الإنسان عن سائر المخلوقات، وأن القدرة بالنسبة إليهم هي جوهر الذكاء، وأنها مركبة من عدة قدرات. وإذا كان سبرمان يقول بالقدرات العامة، فإن طومسون يقول بالقدرات الطائفية. أما نايت فيحدد الذكاء بأنه القدرة على التفكير في العلاقات تفكيرا بنائيا موجها نحو هدف.
ومما يجب ملاحظته هو أن جميع هذه النظريات تشير إلى وظائف تتداخل فيما بينها بدرجة كبيرة، ولذلك فإنها مظاهر جزئية للذكاء وليست مظاهر شاملة له.
بيد أن سبرمان حينما تطرق لنظرية العاملين أوضح على أن هناك ارتباطا وثيقا بين القدرات العقلية بصفة خاصة، وأن من بين تلك القدرات من لها علاقة بالتفكير ومن ليس لها علاقة بالناحية العاطفية أو النزوعية .
إن المهم من هذه النظرية إذن، هو التأكيد على وجود عامل مشترك بين جميع قدراتنا العقلية. فهو موجود في أساس كل أنواع تفكيرنا، ولذلك فهو مظهر عام وشامل ونستطيع أن نعتبره صفة للذكاء أو الذكاء نفسه.
وإذا كنا لاحظنا من خلال هذه النظريات المستعرضة تشتتا حول الذكاء، فإن غايتنا هو أن نقترح تعريفا له، إذ تشترك فيه كما نعتقد، جميع الآراء المذكورة تقريبا وهي اعتباره أنه قدرة:
أ. على اكتشاف الصفات الأساسية للأشياء أو الأفكار الموجودة أمامنا.
ب. استشارة أفكار أساسية أخرى، إنه بتعبير آخر، القدرة على التفكير في العلاقات تفكيرا بنائيا موجها نحو تحقيق هدف ما. فالإنسان الذكي هو الإنسان الذي يستطيع، حين يواجه بمشكلة ما، أن يصل إلى الوجوه ذات المعنى بالنسبة للأمر أو الفكرة الموضوعة أمامه مع استحضار أفكار أخرى ذات علاقة بالموضوع .
ومع أن الذكاء في نظر بياجي وهب، اللذان يمثلان الاتجاه النمائي، ليس ملكة واحدة متميزة ولا يمكن قصره على إدراك العلاقات مثلا أو التفكير المجرد، فهو موجود في كل العمليات التكييفية عند الحيوانات والأطفال الصغار والراشدين. ويتزايد ذكاء السلوك بصورة تقدمية بازدياد تعقد الصلات المتبادلة بين العضوية ومحيطها.
ويرى بياجي أيضا أنه فيما بين المرحلة الحسية الحركية والمرحلة المنطقية تقوم مرحلة مرتكزة حول الذات تكون فيها مفاهيم الطفل عن الزمان والمكان والسببية والأخلاقية وسواها غير عقلانية وإنما حدسية.
من هنا يتبين أن العامل المشترك بين جميع المخططات العقلية هو تلك القدرة الشاملة التي تتداخل بين الاختبارات العقلية :
1. ميزة الإنسان عن الحيوان لكونه لديه جملة عصبية قادرة على الحصول على الإدراكات والعادات والمفاهيم والمخططات المتنوعة وكذلك تفكيكها وإعادة تركيبها وإدراك مفاهيم جديدة.
2. طبيعة النمو العقلي تراكمية. أي أن التجربة أقدر على بناء مخططات أكثر تعقيدا ومرونة.
3. دور المحيط في تدريب الأفراد على التكيف الانفعالي منذ الطفولة إلى الرشد.
4. أن الذكاء غير ثابت طوال الحياة ولاسيما لدى الأطفال، إذ أن تفاعل المخططات العقلية وتأثير اللغة يحدثان قدرا كبيرا من التوحد.
وبالرغم من التعقيدات التي أحاطت بالدراسات المتعلقة بماهية الذكاء، فقد وضعت تعاريف عامة له استنادا إلى هذه القدرات المنسوبة إليه. ولذلك فلازال العلماء مختلفين حول تعريف الذكاء تعريفا منطقيا جامعا مانعا، من حيث وظيفته و غاياته ومن حيث بنائه وخصائصه.
وإذا كانت العديد من المحاولات حول الذكاء الاصطناعي (الذي نحن بصدد دراسته) تهدف إلى فهم الذكاء ومن خلاله السلوك الإنساني وتحديدا "النشاط الفكري" الأقل التباسا من "الذكاء"، فإن غايته هو فهم ملكة الذكاء الإنساني وفهم كنهه وجوهر وظائفه. وبما أن تعريف الذكاء يظل صعبا للغاية، فإن العلماء أجمعوا على تحديد عدة نقط تتفق حولها أهم مظاهر الذكاء الإنساني وذلك على الوجه الآتي :
أولا: التوصل إلى حل المشاكل والقضايا التي يتصدى لها الإنسان بالرجوع إلى المعلومات المتوافرة لديه، وخبرته في الحياة وتقديره للموقف ومعالجته المنطقية لكل هذه المعطيات التي ينتج عنها التوصل إلى الحل.
ثانيا: القدرة على اتخاذ القرارات بناء على إدراك لجوانب الموقف والاحتمالات الموجودة وعواقب أو نتائج كل من الاحتمالات ومعرفة النتائج المرغوب تحقيقها واتخاذ القرار الذي يمكن من التوصل إلى هذه النتائج.
ثالثا: القدرة على التعميم والتجريد، وهي القدرة على استنباط القوانين العامة من الأمثلة المحدودة ومعرفة جوهر الشيء الذي لا يتواجد الشيء بدونه. وهذا يعني القدرة على التمييز بين أنواع المعلومات المختلفة.
رابعا: التعرف على أوجه ومجالات التشابه في المواقف المختلفة والتعامل مع المواقف المستجدة ونقل تجربته وخبرته إلى مواقف ومجالات جديدة عليه.
خامسا: اكتشاف الأخطاء وتصحيحها بهدف تحسين وتطوير الأداء في المستقبل.
سادسا: اكتساب المعلومات والتعلم من خلال الممارسة والتطبيق. وترتبط القدرة على التعلم (بوني 1985) باستطاعة استشراف التماثل في الأشياء والقضايا والتوصل إلى العموميات من الجزئيات واستبعاد المعلومات غير المناسبة. ويجد علماء الذكاء الاصطناعي صعوبة في تحديد المواقف التي لا يكون فيها التعميم جائزاً، كما يجدون نفس القدر من الصعوبة في تحديد السياق الذي يكون فيه التماثل ممكناً.
1-21 تعريف الذكاء الاصطناعي:
إذا كان الذكاء الطبيعي "الإنساني والحيواني" يصعب تحديده تحديدا جامعا مانعا، كما يعتقد علماء النفس المعرفي الذين يكتفون فقط بالاتفاق على تحديد بعض مظاهره التي ذكرناها، فإن الذكاء الاصطناعي كعلم من العلوم الجديدة ذو خلفيات ومرجعيات علمية متعددة له هدف واحد واستراتيجية أساسية هي فهم ملكة الذكاء لدى الإنسان، لأجل أن يستطيع الحاسوب "استيعاب" المعرفة والمعلومات الإنسانية. ومع أن علماء الذكاء الإنساني وفقوا في بناء برامج ناجحة (كالأنظمة الخبيرة التي تحاكي الخبرة الإنسانية مثلا) فإن اعتقادهم زاد رسوخا وتشبثا بالبحث في جوهر الذكاء الإنساني وماهية وظيفته.
ويعتبر الذكاء الاصطناعي فرعا من المعلوميات يقوم بإعادة إنتاج بعض مظاهر الذكاء الإنساني من إدراك للعلامات اللغوية وغير اللغوية وفهمها واستيعابها وتخزينها ثم إنتاجها واستخدامها في ظروف جديدة. وإذا كان "الذكاء" و "التعقل" مفهومان متقاطعان من حيث دلالتهما، فإن علماء الذكاء الاصطناعي اختاروا مصطلح "الذكاء" للتدليل على تلك القدرة والنجاعة التي يتم بها ضبط الظروف الملموسة وكذلك للوصول إلى فهم التجربة الشعورية لدى الإنسان أو حتى لدى الحيوان.
ويختلف العلماء في تعريف الذكاء الاصطناعي ، فالبعض ينظر إليه كأحد العلوم التطبيقية (رأي وينستون 1984 مثلا) ويحدد الهدف الرئيسي له بجعل الحاسوب الآلي أكثر ذكاء، ثم فهم الذكاء الإنساني وجعل الحاسوب أكثر نفعا للإنسان. بينما يعرف شارنياك وماك درموت (1985) الذكاء الاصطناعي بأنه دراسة القدرات العقلية الإنسانية من خلال بناء برامج للحاسوب تحاكي هذه القدرات. ويوضح هذا التعريف الأخير أنهما ينظران إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره علما يسعى لتفسير ظاهرة طبيعية إنسانية وهي ظاهرة الذكاء الإنساني ذات البعد الرمزي في جوهرها. ويشكل منهج البحث في علم الذكاء الاصطناعي ركنا أساسيا يميزه عن العلوم الأخرى التي تهتم بالذكاء الإنساني كعلم النفس مثلا. وكان لهذا المنهج، وهو تقييس للأنشطة البشرية المتسمة بالذكاء عن طريق بناء برامج للحاسوب، إضاءات على السلوك الإنساني نفسه. فهناك من الأنشطة التي يقوم بها الإنسان ما لا يحتاج إلى مدارس وتعليم وتدريب مثل القدرة على التعرف على الأشكال المرئية المختلفة عن طريق البصر واكتساب لغة الأم واستيعاب قواعدها المعقدة واستخدامها في السلوك اللغوي وكذلك على السمع وتفسير ما يصدر عنه من أصوات، وهناك من الأنشطة ما لا يستطيع أن يقوم به الإنسان دون تعلم كالقيام بعمليات الضرب والقسمة الحسابية. كما يبدو لأول وهلة أن عملية الرواية لا تتطلب مجهودا خاصا لتعلمها وأنها تتميز بالبساطة إذا قورنت بالعمليات الحسابية المعقدة التي نحتاج لتعلم قواعدها، وأحيانا لا نستطيع القيام بها دون استخدام الورقة والقلم. إلا أن علماء الذكاء الاصطناعي وجدوا صعوبة بالغة في جعل الحاسوب يرى ما حوله وأن يغير من سلوكه حسب ما يرى، بينما كان من السهل جدا عليهم بناء آلات حاسبة صغيرة وزهيدة الثمن تستطيع القيام بجميع العمليات الحسابية المعقدة بسرعة فائقة ودقة بالغة .
وإذا كان كل من بوني وشارنياك ودرموت قد اتفقوا على أن الهدف الأساسي للذكاء الاصطناعي هو فهم ملكة الذكاء لدى الإنسان فإن برينو دفاي قد أعطى رأيا آخر يتمثل في تعريفه للذكاء الاصطناعي حسب ثلاثة أقسام وهي :
أ. الذكاء الاصطناعي النظري: وهدفه الأساسي هو بناء نماذج معلوماتية للذكاء. موضوع دراسته، إذن، هو الذكاء وأداته هي المعلوميات، وهكذا فعلى الباحثين في الذكاء الاصطناعي أن يجيبوا عن الأسئلة الملفتة التي استلهمت الفلاسفة منذ زمن بعيد والمتمثلة في ماهية هذا النظام الذي نصفه بالذكي وماهية أنماط المعارف وأنواعها الصالحة والمناسبة له. ويبدأ العمل بتحديد سلوك النظام الذكي وبناء إطار شكلي له ثم مقارنته بالتجربة الطبيعية وهذا يتطلب تحديد مناهج لتمثيل المعارف داخل ذاكرة الحاسوب، بكتابة خوارزمات قادرة على استعمال هذه المعارف وقادرة على بناء الاستدلالات ثم منح هذه الأنظمة القدرة على الحفظ والفهم، وكذلك القدرة على تغيير المعارف متى شاءت.
ب. الذكاء الاصطناعي التطبيقي: فعلى غرار مهندسي الفيزياء الذين يوظفون نتائج الفيزياء النظرية لبناء آلات جديدة فإن مهندسي الذكاء الاصطناعي كذلك يوظفون النماذج المطورة من قبل الباحثين وذلك ببناء أنساق معلوماتية قادرة على حل المسائل المعقدة، لهذا برز إلى الوجود جيل جديد من البرامج المعلوماتية تسمى بأنظمة الذكاء الاصطناعي. والذكاء الاصطناعي التطبيقي الذي يشكل فرعا من المعلومات ذو قيمة اقتصادية كبرى من حيث صناعة البرمجيات لتحسين تفاعل الإنسان مع الآلة أو ما يسمى بحوار الإنسان-الآلة. وكذلك من حيث إمكانية التحكم في عقد ة أو بالأحرى المشاكل التي تصطدم بها الأنظمة التطبيقية الكبرى بحلها وتطويرها في نفس الآن. وأيضا حل المشاكل العالقة مع المعلوميات التقليدية.
ج. الذكاء الاصطناعي التقني: بما أن الفيزيائيين اضطروا إلى تطوير وسائل رياضية ووحدات للقياس جديدة لحل مشاكل هذا العلم، فإن علماء الذكاء الاصطناعي فعلوا نفس الشيء حينما طوروا لغات برمجة جديدة مثلLISP و PROLOG لتسهيل برمجة أنظمة الذكاء الاصطناعي بشكل تلائمه الآلات الحاسوبية التي يجب أن تكون مصحوبة بإمكانات عالية للتواصل لكي تتمكن من الحوار الشفوي معها بلغة عادية.
هذا وإن الهدف من هذا الطموح التقني لم يكن أن يتحقق لولا ذلك الحلم الذي نقترب منه شيئا فشيئا وسنشاهد حقا ثورة في المعلوميات بفضل جهود الخطوات الأمامية الكبرى للذكاء الاصطناعي ولتقنياته الهائلة.
ولما كان هذا العلم دراسة لميكانزمات الذكاء الإنساني من أجل فهمه فهما دقيقا ومفصلا فإن الحاسوب سيكون بمثابة وسيلة للمماثلة والنمذجة المنهجية للمعرفة البشرية. كما يهدف إلى اعتماد مجهودات وافرة لجعل الحاسوب ذو قدرة عالية للاستفادة من الذكاء الإنساني (باستيعاب المعارف وإدراكها بالحواس، وخاصة السمع والبصر، والاستدلال واتخاذ القرار…) وهذا من شأنه أن يطور قدرات الأنظمة المعلوماتية ويقوم بتعداد المعارف المتنوعة لدى الذكاء الاصطناعي.
ويمكن أن نقول مع دومنيه أن تعريف الذكاء الاصطناعي يتلخص في إعادة إنتاج السلوكات الذكية على الحاسوب، بالتمييز بين صنفين كبيرين لهذه السلوكات:
× إعادة إنتاج الأنشطة الحسية (الإبصار والسمع والكلام….).
× إعادة إنتاج الاستدلالات والأنشطة الدماغية العليا (كالحساب الصوري وبرهنة الخاصيات والبرامج والخبرة…واللعب ! …إلى غير ذلك).
كما يمكن أن نضيف صنفا ثالثا يتمثل في الأدوات والمناهج والمفاهيم المعلوماتية (من آلات ولغات وقواعد بيانات "ذكية").
من هذا المنطلق يتبين لنا أن علماء الحاسوب يرون الذكاء الإنساني سبيلا لتطوير نظرية منهجية للعمليات الذهنية حيثما وجدت، أو دراسة الذكاء كعملية في الحاسوب، بينما يرى علماء آخرون أن هناك ترابطا بين الذكاء الاصطناعي والهندسة كما ذهب في ذلك برينو دوفاي. وفي نظر الباحثين أن هذا المفهوم الجديد للآلة التي تقوم بأعمال تحتاج إلى الذكاء لو أن الناس قاموا بها، إذ يصبح حل المعضلة حول ارتباط العقل بالجسد أمرا قريب المنال ، والنتائج التي سوف تستمد من الذكاء الاصطناعي ستوضح أمورا مثل الإرادة البشرية والحرية، كما أنها تساعد على فهم الأسلوب الذي يكتسب به الإنسان قدراته. وسوف تبرز درجة التعقيد في وظائف مخ الإنسان .
ولأن الذكاء خاصية داخلية وليس مظهرا خارجيا ملموسا يمكن إدراكه أو تحديده فالإنسان العادي لا يكتشف قدر ذكائه إلا عن طريق تعامله مع البيئة الخارجية (وهذا ما يبين السلوك الذكي من غيره) وهو ما توصل إليه ألان تورينغ عندما صمم اختبار ذكاء يعتمد على تحاور الإنسان مع آلة، عن طريق لوحة مفاتيح آلة كاتبة، شريطة أن يجرى الحوار دون إعداد مسبق، وفشلت التجربة فشلا ذريعا لكنها لم تثن العالم الرياضي نفسه أو من جاء بعده من العلماء عن هذه البحوث.
وإذا كان الحديث عن الذكاء الاصطناعي كمصطلح- رحبت به التكنولوجيا بصدر رحب- حديث العهد، فإن ذلك يعود أساسا إلى اعتبار "استخدام الحاسوب كوسيلة لتقييس المسارات الطبيعية أو كقدرة مستخلصة من الذكاء الإنساني" . ورغم حداثة هذا العلم فإنه كان من الأساطير ومن الأحلام القديمة في تاريخ البشرية تحقق الآن في صورة حاسوب ذكي.
2-الذكاء الاصطناعي: حلم قديم وحقيقة معاصرة.
2. -1 بدايات.
في الحقيقة، تعود رغبة الإنسان في إبداع "الآلات الذكية" إلى عهود غابرة من الزمن. ومن دون شك ستكون ملحمة الإلياذة في شدوها الثامن عشر أول استلهام في هذا الخلق/ الحلم، فكان إلاه النار هيفاسطوس بنى طاولات قائمة على ثلاثة أرجل مصحوبة بعجلات صغيرة تتنقل لوحدها في قصر الآلهة، إنها بلغة أخرى حديثة، عبارة عن روبوتات !(تبارت 1985) . وتحكي لنا الأسطورة كذلك عن سقوط النحات بكماليون Pygmalion في حب صنيعه أرتيميس فمنحه الحياة بالمعنى الرمزي . وفي التقاليد اليهودية كان ما يسمى عندهم بـ الكلوم Golm عبارة عن أوتومات في صورة إنسان مصنوع من خشب ومن تراب أصبح فيما بعد خادما للحاخام بحيث كانت كلمات سحرية تسجل على جبينه فيستند إليها السيد كلما أراد خدمة. وفي القرن السادس عشر برز حلم الأوتوماتات المحاكية للجسد البشري حيث استلهمت أفكار ديكارت خلال القرن السابع عشر حينما أعطى فكرة "الحيوان-الآلة"، وهذه آمال فلسفية أرادت محاكاة الأنشطة الإنسانية ميكانيكيا . هذه الآمال صيغت مع فوكانسون (1709-1782) وهو أحد رواد هذا الميكانيزم، فاخترع في سنة 1738 ببغاء شهيرة تقوم بإنتاج سلوك الحيوان الحي بصورة مماثلة (القدرة على السباحة وتحريك الجناحين وأكل البذور …) بعد أن كان اخترع أوتوماتا يلعب بالناي. وخلال نفس الحقبة ظهر عمل لميتري أوزا، عنوانه الإنسان- الآلة، فيه تلميح بمبادئ النقاش والحوار بين الإنسان والآلة وأيضا،وفي هذه الحقبة كذلك، خرج إلى الوجود أوتومات كمبلن سنة 1769 الذي حقق نجاحا باهرا إذ طبق في مجال لعبة الشطرنج. وقد سار على هذا المنوال كل من طوريس إي كيفيدو وزوس اللذان كانا من أوائل من قام ببرمجة قواعد لعبة الشطرنج.
هكذا إذن، وابتداء من باسكال (1623 و 1662) صاحب أول اختراع للآلات الحاسبة التي تقوم بعمليات الطرح والزيادة وكل العمليات الرياضية والهندسية القابلة للإنجاز ميكانيكيا، وكذلك فوكاسون؛المذكور ؛من بعده، أصبح الذكاء ملموسا وليس مجرد أسطورة كما رأينا . فمنذ ذلك التاريخ الذي بدأ فيه هذا النوع من التفكير، أصبحت علوم الخيال science-fiction قادرة على خلق وإبداع الكفاءات الإنسانية وإنتاج السلوكات الذكية بأبعادها الرمزية من خلال أشياء وفي إطار موضوع "الأنسنة الآلية" التي هي أصلا عبد ميكانيكي .
ولا ننسى في هذا الإطار ما قدمه الفيلسوف لايبنز (1646-1716) من إبداع في هذا المجال يتمثل في خلق آلة تقوم بالاستدلال على غرار نموذج الاستدلال لدى الإنسان ، وقيامها بهذه العملية يمنحها القدرة على تسلسل القضايا الأولية لأجل الوصول إلى الاستنتاجات. ويمكن القول هنا أن اقتراح لايبنز يعتبر البادرة الأولى لقيام ذكاء اصطناعي حقيقي. ولتوضيح الأمر نسوق هنا المثال التالي:
ق1: إذا صعدت معدلات الفائدة إذن سيجنح المستثمرون نحو بيع أسهمهم.
ق2: إذا باع المستثمرون أسهمهم إذن ستتقهقر الوضعية الاقتصادية للمقاولات.
ق3: إذا تقهقرت الوضعية الاقتصادية للمقاولات إذن ستتضاعف البطالة.
(ق: قضية منطقية)
إذا انطلقنا من هذه القضايا الثلاث سنجد العلاقة بين تصاعد معدلات الفائدة والبطالة علاقة استنتاج .
وحسب لايبنز نفسه فإن كل الاستدلالات تعتمد الحساب الأعمى calcul aveugle ، وأنها عبارة عن علل متسلسلة تتحكم في هذا الكون. ولهذا اعتبر التفكير حساب وأن علم المنطق هو القادر على صياغة هذا الحساب في أشكال استدلالات صالحة، وهذا ما أدى بهذا الفيلسوف إلى تصور آلة تقوم بعملية الاستدلال .
بعد هذه المحاولات ظهرت بشكل حقيقي وملموس وفي إطار المدرسة الإنجليزية للرياضيات عملية تسمى ب"أتمتة المسارات الدماغية" Automatisation des processus cérébraux مع مجموعة من المناطقة والرياضيين نذكر منهم على الخصوص:
. 2.2 شارل باباج C. Babbage (1792-1871) وآلات حساب الدوال:
تعتبر سنة 1834 السنة التي قدم فيها هذا العالم مفهوما مدققا عن الآلة الكلية للحساب التي تعتبر بمثابة جد الحاسوب الآلي وأصله. وباباج هذا الذي كان رياضيا ومهندسا محنكا، حقق آلة ميكانيكية ! قام بإنجازها سنة 1833 لتقوم بعمليات الحساب التفاضلي différentielle وبعمليات الطرح والضرب. وكان مرماه هو حساب الجداول الرياضية آليا لأجل حساب المثلثات trigonométrique وكذلك معالجة الدوال اللوغاريتمية. وتماشيا مع منهاج باسكال يريد باباج أن يجعل من آلته آلة حساب التفاضل. وبعد هذا الإنجاز بسنة، وضع هذا المهندس أسس آلة تقوم بتنفيذ العمليات الحسابية بالأرقام كما تقوم بالبث في العبارات الصورية .
ولأن المشروع كان جديدا كل الجدة، فإن مبادئ التشغيل التي ارتكز عليها تمثل إلى حد ما مبادئ الحواسيب الحالية. وهذه الآلة التفاضلية التي تفحص الأعداد مباشرة وتقوم بتحليلها قادرة على ضبط بعض العبارات التحليلية من نمط :
((أ+ ب)X(أ- ب)) كما أنها قادرة على تنفيذ العمليات الحسابية وذلك لأجل تقييم قيمة هذه العبارات بحسب قيم البرامترات (أ و ب). وهكذا ستصبح هذه الآلة التحليلية قادرة على تحويل العبارات التحليلية إلى مسار من الحسابات التي يمكنها أن تجرى آليا .
ونظرا للتعقيدات التي طبعت هذا العمل بوجود قيود تكنولوجية حالت آنذاك دون إنجازه إلا بعد قرن من الزمن، لم يكتب لهذا الرجل أن يرى حلمه محققا رغم ما بدله من مجهودات علمية وتضحيات مادية جسيمة.
3-2جورج بول George Boole (1815-1864):
ومن معايشي باباج نذكر أحد الرياضيين البريطانيين وهو جورج بول الذي أنجز مشروعا أعاد فيه طرح اقتراح الفيلسوف لايبنز بصيغة أخرى تتمثل في ريضنة المنطق mathématisation de la logique وصورنة العمليات الاستدلالية باعتبارها متتاليات صورية تسمح بالانتقال من مجموعة قضايا إلى أخرى. وكان مبتغى هذا العالم هو تصنيف مختلف صيغ الاستدلالات على شكل هيئات أو صور منطقية، وعليه وبواسطة عملية القياس يمكننا أن نصل إلى الصورة المنطقية الثالثة (الاستنتاج) انطلاقا من صورتين أوليتين (مقدمتين) كما في المثال التالي:

مقدمة كبرى : كل إنسان فان
مقدمة صغرى : سقراط لإنسان
نتيجة : سقراط فان
على أننا ندرك تماما أن النتيجة تستقى من المقدمتين الكبرى ثم الصغرى، وهذا ينطبق على جميع الأوجه المنطقية المشابهة كما في الصوغ التالي:

مقدمة كبرى : كل س هو ص
مقدمة صغرى : ع هو س
نتيجة : ع هو ص

ويمكن أن ننطلق من نتيجة منعكسة كما يبين القياس التالي:

مقدمة كبرى: كل س هو ص
مقدمة صغرى: ع هو ص
نتيجة : ع هو س
فنحصل على نتيجة معكوسة كذلك.
وتجدر الإشارة هنا أن رأي حول المعالجة الرياضية للقواعد المنطقية كان قائما على مبدأ الاستنباط وموظفا لخاصيات الضرب الرياضية، فأصبح المنطق إثر ذلك عبارة عن حساب عادي ينطلق من فرضية ذات قيمة عددية (0 و1) لأجل استخلاص نتائج القياس بحسب قيمتي الصدق والكذب. ويمكن أن نعيد كتابة القياس وفق اقتراح بول كما يلي:

مقدمة صغرى: كل س هو ص. تكتب » س* ص = س «(س=1)
مقدمة كـبرى : كل ع هو ص. تكتب » ع * س = ع « (ع=1)

أما النتيجة فنحصل عليها عن طريق الاستنباط. وما علينا إلا استدعاء خاصية الضرب كي نستخلص أن ع هو ص انطلاقا من » ع * س = ع « وهكذا دواليك.
ومما لا يدع مجالا للشك والارتياب هو أن الرياضيات أصبحت منذ ذلك التاريخ علما عقليا لابد منه إلى جانب العمليات المنطقية لأجل ما يسمى ب"الموصلات الإلكترونية" التي يصطلح عليها الآن ب"الموصلات المدمجة" circuit intégré لأجل موقعتها في قلب الآلات الحاسوبية، ومع ذلك لا يجب أن تنتظر هذه الموصلات حتى ننجز آلات تقوم بعمليات الاستدلال، وهذا ما حصل مع وليام شتانلي جفونس (1835-1882) الذي أعاد صياغة قواعد بول المنطقية ثم آلة باباج التحليلية لأجل إنجاز بيانومنطقي (سنة 1870) يستطيع القيام بالاستدلال. وهذا الجمع بين الآلة التحليلية والقواعد المنطقية مكناه من ميكنة رياضية قادرة على ميكنة قوانين الفكر حيث أسس انبعاث الآلات الذكية
.4.2تورينغ و"العقل الإلكتروني":
في سنة 1950 اقترح تورينغ (1912-1954) (Alain. M. Turing ) عندما نشر مقالته الشهيرة "Can a machine think ? " تعريفا رسم فيه تصميما يؤهل الآلة كي تصبح "ذكية" وكانت تجربته هذه قد عرفت تحت اسم "اللعبة المحاكية" التي تقوم على الحوار بين الإنسان والآلة، وطرفا الحوار قد يكونان غير محددان تحديدا واضحا expérimentateur يجهل هوية المتحاور الذي هو في غالب الأحيان آلة، وبواسطة المرقان يكتمل التحاور ومن ثم تحدد هوية الطرف المخاطب بشكل تام .
وقبل هذه الفترة بسنوات، أي خلال سنة 1936، قام تورينغ بصورنة نظرية الأوتومات ومفهوم الحسابية فحدد مفهوما مجردا للآلة سمي ب"آلة تورينغ" التي تعمل وفق إوالية تأخذ بعين الاعتبار الزمان والمكان قصد معالجة المشاكل وحلها واتخاذ القرار فيها وذلك عبر قاعدة أساسية وهي الخوار زم. ولما كانت هذه الآلة آلة كلية universelle سيكون بالإمكان تقليد سلوكها وصياغة آلات أخرى على منوالها بشكل اعتباطي حتى تقوم هي الأخرى بدور الإقرارية décidabilité في حل المشاكل المعقدة.
أما في سنة 1950 فقد حاول عالم الرياضيات هذا حينما كان مدرسا بجامعة مانشستر المشاركة في إنجاز أولى الحواسيب التي كان أحدها قد صنع بالولايات المتحدة في بداية الأربعينات لغرض القيام بعمليات حسابية لصناعة القنبلة الذرية الأولى وعرف تحت اسم (ENIAC) .
منذ ذلك الحين، بدأ الحديث عن "العقول الإلكترونية" التي تعمل أساسا على معالجة حساب الأعداد ، ولم تكن وقتها قادرة على منافسة العقل البشري وتجاوزه لأنها كانت مزودة بخوار زم لا يمت بصلة بخلايا الإنسان العصبية .
ومع ذلك، فكل ما ذكرناه وأنجز من اختبارات يعطينا انطباعا عن فكرة أساسية هي إمكانية إعادة إنتاج المسارات الدماغية الإنسانية على مستوى الحاسوب كي يكون قادرا على التفكير.
3. ولادة الذكاء الاصطناعي:
قد يعتقد البعض من المهتمين أن الطريق التي سلكها علماء المنطق والرياضيات وذوي الاختصاص من الفلاسفة والباحثين كانت معبدة وسهلة المسير وخالية من كل الصعوبات، والحال أنها كانت محفوفة بالمخاطر، ذلك لأن صورنة المنطق لأجل اختزال الفكر إلى عمليات بسيطة هي مجازفة ومخاطرة في حد ذاتها فبل كل شيء. فالمنطق في بداية الأمر كان موجها لتحليل الخطاب الحجاجي ومعالجته وبعد ذلك أصبح آلة لتحليل بعض جوانب النحو والبلاغة، ولكن صورنته هذه لم تكن لتؤدى إلا ليكون موضوعا أساسيا لعلم الرياضيات .
وتبعا لتشكيل بول الجبري الرياضي للمنطق وضعت قضية علاقة الرياضيات بالمنطق في قمة الإشكالات المطروحة أمام العلماء، وبالتالي طرح السؤال التالي: هل يرتكز المنطق على الرياضيات أم الرياضيات على المنطق ؟ وقد أجيب عنه مع مجموعة من المناطقة نذكر منهم فريجه وهلبرت وراسل الذين أرسوا قواعد نظرية صورية للبرهان. وهذا ما يطلق عليه بالميتارياضيات Métamathématique ، ثم صياغة المنطق بمفاهيم جبرية. وما توصل إليه تورينغ ليس إلا وصفا رياضيا لسلوك آلته وذلك ما أدى به إلى تحقيق أول حاسبة إلكترونية، وتلك تجربة وضعته أمام نظرية جديدة للآلات ومن ثم أمام فهم سلوك هذه الآلات الذكي الذي ما هو إلا وهما يحصل لدى الأفراد والناس جميعا، وما يمثله هذا السلوك في أوجههم من قدرة على الذكاء بشكل حقيقي . وبعبارة أخرى، إن الذكاء الفعلي للآلة هو فهمها وشعورها بكل شيء في الواقع.
ومع ظهور هذا الإنجاز إلى الوجود، وبزوغ إمكانية صنع "الذكاء " في شخص الآلة، انبثقت في الدول المتقدمة وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا واليابان فرق ومختبرات للبحث في مجال الذكاء الاصطناعي هدفا نحو الحصول على آلة قادرة على حل المشاكل وإدراك الوسط المعرفي والثقافي والتفاعل معه وفهم النصوص باللغات الطبيعية وترجمتها إلى لغة أخرى….ومن الصعوبات التي واجهت الأعمال التطبيقية الأولى هناك البرمجة الحاسوبية الثنائية من جهة ومن جهة أخرى القوة والقدرة التي حصلت مع وجود وفرة الكلمات المعالجة التي لا تلائمها تلك الآلات الحاسبة المبرمجة. ومع ذلك واصل العلم البحث في الإنتاج الاصطناعي للاستدلال الطبيعي مع ماك كارثي ونويل وسيمون وغيرهم.
1-3-.جون ماك كارثي (J. Mac Carthy) و الذكاء الاصطناعي:
في صيف عام 1656 عقد أول مؤتمر للذكاء الاصطناعي من قبل علماء الكمبيوتر في أمريكا وكان في مقدمة الحضور جون ماك كارثي الذي يعود إليه الفضل في صياغة عبارة "ذكاء اصطناعي" إذ قال آنذاك "إننا نحتاج إلى شيء أكثر بهرجة وأعمق دلالة الشيء الذي أشاع جوا من التفاؤل الكبير في السنوات اللاحقة عززته سلسلة من التطبيقات العلمية في مجال الإلكترونيات والمعلومات والاتصال. هكذا وفي نفس الوقت الذي أعلن فيه عن قيام هذا العلم اقترح العالمان نويل وسيمون إعداد أول برمجة تستطيع البرهنة على الخاصيات تسمى ب"المنظر المنطقي" logic theorist ، وفي نفس السنة كذلك قام ماك كارثي ببناء لغة برمجة اصطناعية مكيفة وملائمة مع متطلبات تشغيل المعارف وتوظيفها وإعادة إنتاج الاستدلال الطبيعي. وكان قد أرسى هذه القاعدة / البرمجة انطلاقا من مفهوم القوائم listes (التي تمثل كل المعلومات المستخدمة) ومفهوم البرمجة الدالية (إذ أن كل الموضوعات المبرمجة هي دوال رياضية).
ومنذ سنة 1958 أصبحت لغة البرمجة LISP (LISt Processing) اللغة المعتمدة بعد لغة FORTRAN (FORmula TRANslator) في جميع الأعمال التطبيقية للذكاء الاصطناعي. هذا وبفضل الإقبال الكبير لمستعملي هذه اللغة، أصبحت الأقدر على احتواء معطيات المحيط الغنية بالمعرفة.
2.3 .نويل وسيمون (A. Newell & H. Simon) والبحث عن إواليات الاستدلال:
إذا كان "المنظر المنطقي" يعتمد منهجية البحث الأعمى Aveugle التي لاتثبت جدواها في غالب الأحيان، فإن نويل وسيمون ألحقاه بتحليل لبروتوكولات حل المشكلة Protocoles de resolution de probleme ليتم الوصول إلى استجلاء مبدأ "تحليل نهايات-متوسطة" means-ends analysis قصد برمجته كإوالية للقيام بالاستدلال في نظام GPS (General Problem Solver) الذي أعد سنة 1959 من قبل هذين العالمين ليكون كنظام وكبرمجة ناجعة لحل المشاكل والقضايا المنطقية، حيث كان في البداية نظاما خاصا بالبرهنة على ماهية العبارات المنطقية وعمم بعد ذلك على باقي أصناف المشاكل وأنواعها المختلفة .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدراسات العلمية في هذا المجال وفي هذه الفترة بالذات اتجهت إلى البحث في نموذج اشتغال الدماغ داخل هذا المسار المخصص للبحث عن الحلول الممكنة للمشاكل الموجودة. وقد كانت فكرة سيمون جيدة حينما أراد من الحاسوب إعادة إنتاج السلوكات الذكية التي يمكن بها تحديد إوالية البحث عن حل المشاكل.
هذا وقد اعترت هذه المحاولات بعض الأخطاء حينما كان الهدف هو مواجهة المشاكل العامة بتزويد الآلات بإواليات الحل، وقد أفرزت المنهجية المتبعة تعقيدات تتمثل في كون مشروع إنتاج الفكر على الحاسوب لا يمكن أن يتحقق في أول وهلة .
وعلى هذا الأساس قامت مجموعة البحث في التعرف على الأشكال ومعالجة الصور بتنظيم مؤتمر سنة 1965 خصص للذكاء الاصطناعي وخلاله تم تدارس محورين اثنين مختلفين في الأبعاد وهما:
أ. محور ذو بعد رياضي وهو حول نظرية الإعلام ومعالجة العلامة .
ب. ومحور آخر ذو بعد سيكولوجي وهو حول إواليات الاستدلال وحل المشاكل وتوليد الخطط.
غير أن هذين المحورين متكاملين من حيث المرمى المتمثل في إنجاز وتحقيق آلة ذكية.
وفي سنة 1966 قدمت اللجنة التنفيذية للبحث في معالجة اللغات الطبيعية (ALPAC)، التابعة للمجلس الوطني الأمريكي للبحث، تقريرا مفصلا عن مشاريع دراسية وبحثية حول الترجمة الآلية التي تم إقصاؤها مؤقتا من دائرة الاهتمام، مما أضعف مصداقية فرق البحث في الذكاء الاصطناعي . وبموازاة مع ذلك قامت إدارة الدفاع الأمريكية بتمويل بحث آخر حول إنجاز برنامج يقوم بنقل النصوص من لغة إلى أخرى، بعدما كان نظام الترجمة القائم على نقل كلمة-بكلمة قد أبان عن فشله، كما أشرنا إلى ذلك في مدخل الرسالة.
ويعتبر عالم اللسانيات الايرلندي الأصل نوام تشو مسكي أول من أقدم على تعريف وتحليل البنيات التركيبية للغات الطبيعية (من خلال نموذج 57 ) وقد كان لهذا الأثر الكبير في تطوير تقنيات تمثيل المعرفة على مستوى الحاسوب.
أما سنة 1968 فقد طبعتها ما طرحه أستاذ الشطرنج البريطاني الشهير ليفي D.LEVY من اقتراحات وتحديات ضمن ما توصل إليه البحث في الذكاء الاصطناعي، بحيث أقر بخلق نظام للعب بالشطرنج قادر على الصمود في وجه الأبطال الكبار. ولكن هذه الآمال سرعان ما تبددت عندما استطاع ليفي نفسه هزم نظام CHESS الآلي.
ويبقى، على أية حال، مجال لعب الشطرنج المجال المفضل لأبحاث الذكاء الاصطناعي حيث توصلت في سنة 1986 خلال تنظيم البطولة الدولية في بكامون إلى إنجاز نظام يمكنه الصمود في وجه بطل الشطرنج. وفي هذا الشأن أفادت مناهج ألفا- بيطا (Alpha-Bêta) كثيرا في تطوير تقنيات الخوار زم التي يعمل بها نظام الشطرنج هذا، بعد أن كان يعتمد على استغلال خوار زم الأشجار.
وعلى الرغم من كل هذه النتائج الجيدة للذكاء الاصطناعي، فإن أنظمة الشطرنج لم تمنحه المصداقية والصرامة الكاملتين في القطاع الصناعي.
.3.3الذكاء الاصطناعي وأنظمة الخبرة:
مما لا يدع مجالا للشك، أن سنوات السبعينات كانت العقد الذي برزت فيه "الأنظمة الخبيرة" التي كان أولها ظهورا هو DENDRAL (سنة 1969) بجامعة ستانفورد. وقد بني هذا النظام للقيام بعمل الكيميائي، وأساس عمله برنامج ذكي يعتمد معارف المتخصص ومعلومات عن المجال. وهذه المعرفة تزود خوارزم النظام لأجل تمكنه من المعرفة التامة والمتاحة بأمور العمل الذي عليه القيام به متى طلب منه ذلك.
وأهم فكرة ترتكز عليها هذه الأنظمة فكرة "قاعدة المعرفة" knowledge base . ومن الأنظمة الخبيرة الذائعة الصيت ما أنجزه شورتلايف (Shortliffe) سنة 1976 في مجال الطب تحت اسم MYCIN ويقوم هذا النظام بفحص المرضى المصابين بعدوى بكتيرية في الدم. ومن نتائجه الرئيسية على وجه الخصوص :
أ. تحقيق وسيط بيني interface حواري بلغة شبه طبيعية وبمساعدة TEIRESIAS .
ب. تم عزل حزمة البرمجيات (التي هي عبارة عن آلة للاستدلال(كما فعل فان ميل 79)) عن إواليات الحوار. وهذا ما يفسر إمكانية عزل المعارف عن ميكانيزم الاستدلال؛ مما جعله ذو شعبية هائلة من حيث النتائج المحصل عليها.
وتميزت سنوات الثمانينات عن غيرها بالتطبيقات الصناعية، حيث في سنة 1981 ثم تأسيس شركة Teknowledge بأمريكا تحت إشراف فايجنبوم وهي أول شركة عنيت بتجارة الأنظمة الخبيرة . وفي نفس السنة باليابان، تم الإعلان عن البدء في مشروع الجيل الخامس من الحواسيب FGCS خلال مؤتمر عقد لهذا الغرض، والهدف منه هو تطوير الذكاء الاصطناعي وتحقيق نوع جديد من الحواسيب تعالج وتحل المشاكل وتنفذ الخوارزميات وتقوم بالاستدلالات وبالحسابات بوسائط "طبيعية" من لغة وخط وكلام… .
ويعتبر هذا الاختيار، كما يقول دومينيه ، اختيارا مناسبا لدى اليابانيين مادام المجال ذو امتياز تكنولوجي هادف، حيث واصل البحث فيه العلماء بأمريكا وخاصة المعالجة الآلية للمعارف.
4 .جدل حول الذكاء الاصطناعي.
إن الهدف من الذكاء الاصطناعي ذو عدة دلالات وينطوي تحته عديد من النوايا ذات أبعاد وأغراض متباينة، منها التحدي العلمي الذي لا يكل منه العلماء ولا يملون، ورغبتهم الدؤوبة في الوصول إلى ما لا يعلمون بما يعلمون آملين في تحقيق وصناعة آلة أو جهاز مؤلف من خلايا إلكترونية لها قدرات وإدراك إنساني. وهناك نوايا أخرى تتضح من استقراء حجم الدعم والمساندة المالية لمراكز ومختبرات بحوث الذكاء الاصطناعي في كل من أمريكا واليابان: فالأولى تريد التفوق والاستمرارية في النظام العالمي الجديد ومن ثم السيطرة على التكنولوجيا المتقدمة، والثانية تريد استقبال الألفية الثالثة بفرض الحضارة والنمط الياباني على العالم بدءا من صناعة وتسويق المنتوجات التكنولوجية المتطورة .
ورغم مرور عقود عن إعلان ماك كارثي لتسمية الذكاء الاصطناعي فإننا نجده من أكثر المصطلحات إثارة للجدل إذ دخل حلبة نقاش حاد لا يبدو أنه سيهدأ لسنوات قادمة . وهو جدل يدور حول ما إذا كان لهذا المصطلح معنى دقيق يمكن الإجماع عليه. وكان للنجاحات الباهرة التي حققها الذكاء الاصطناعي في ميدان الصناعات الإلكترونية جدارة علمية تأثرت في البداية لكنها تطورت في ظرف زمني وجيز مما أكسبها شعبية هائلة حتى لدى الشركات التي لا يمكن أن تتراجع عن تصنيعه وتسويقه، ولا سيما أنها مشروع جيل جديد يتوخى المرور من الحساب إلى الاستدلال . وهذا يتطلب الانتظار كما يقول بترات الفرنسي فأهدافه بعيدة المدى وواضحة في نفس الآن.
على الرغم من هذا، كانت المعارضة شديدة حول فكرة تعقد المخ البشري وذكاءه حيث استحالة محاكاته لأن التفكير ميزة الإنسان فقط وفي نظرهم أن مفهوم الذكاء يطبعه الغموض، وأنه خاص بالإنسان. فمن يشترك معه في هذه الخاصية ؟ وكيف يمكن تمييزه عن الفكر ؟ وما الفرق بين الفطرة والإدراك ؟ وهل هناك أشخاص ذوي قدرة عالية منذ الولادة وآخرين ليسوا كذلك ؟ ثم هل يمكن أن نقارن بين المخ البشري المكون من مئات البلايين من الخلايا العصبية المتشابكة فيزيولوجيا والخلايا الإلكترونية ذات الترابط المنطقي ؟ كما أن ذاكرة الإنسان تختلف عن ذاكرة الحاسوب على مستوى التذكر لأن الآلة تعتمد على مخزن للمعلومات ملحق فقط وأن التذكر الإنساني هو دينامية معقدة . هذه اعتراضات كان أكثرها جدالا ما تقدم به الفلاسفة أمثال جون سورل وهربرت دريفوس الذين ميزوا بشدة بين ذكاء الآلة والذكاء البشري من حيث إن مظاهر السلوك الذكي ليست شرطا كافيا لأصالة الذكاء كما قال سورل، كما أن مفهوم الذكاء الاصطناعي يعود كما يقول دريفوس إلى اعتقاد ميتا فيزيقي خاطئ طغى على الفلسفة الغربية، فحواه أن كل أنواع المعرفة يمكن تمثيلها بطريقة أو بأخرى في صياغة محددة وسافرة في هيأة القياس المنطقي . والحال أن الآلة لا يمكنها أن تفهم دقة وتعقيدات هذا الكون وأن تختزله إلى مجرد حساب منطقي. وعلل البعض اعتراضهم على ذلك بكون السلوك الذكي لا ينفصل عن الإطار الذي يتم فيه هذا السلوك، وأي عزل بينهما تبسيط لا يمكن قبوله.
أما أهل اللغة فقد بنوا اعتراضاتهم على أساس أن فهم اللغة ومحاكاتها وتوليدها يحتاج إلى ملكات ذهنية ونفسية يصعب محاكاتها، وهي أمور تحتاج إلى خلفية معرفية تفوق بكثير تلك التي تتضمنها القواعد والمعاجم بل ودوائر المعارف. والتحدي، إذن، هو كيف نضع العالم في جوف الآلة ! .
أما علماء النفس فقد كان اعتراضهم حول عدم إمكانية فصل التفكير الذكي عن المشاعر المصاحبة من انفعالات وتأثر، وحجتهم في ذلك هو تداخل المواقف النفسية مع آلية التفكير بصورة يتعذر معها الفصل بينهما.
وعلى الرغم من شدة الاعتراضات ووجاهتها، فإنها لم تمنع أهل الذكاء الاصطناعي من متابعة أبحاثهم في تطوير تقنيات جديدة وإعادة إنتاج القدرة البشرية على الحاسوب منطلقين من إمكانية بناء آلة مفكرة، مما زادهم تشبثا بالنتائج التي توصلوا إليها، وإصرارا على تطوير أبحاثهم بما يخدم تطلعاتهم العلمية وأهدافهم المستقبلية ويكشف عن تطبيقات أكثر نجاحا للذكاء الاصطناعي في المستقبل.
5. عناصر الذكاء الاصطناعي:
إن أساليب الذكاء الاصطناعي عديدة ومتنوعة، فهي عبارة عن تقنيات معتمدة كنظام المراقبة وتقنيات البحث بالرسم Graphe والبحث بدون تخزين وبدون تسلسل أو بالتسلسلين الخلفي والأمامي أو بالبحث العميق وآخر عريض ، تقنيات التصنيف التشجيري و الوراثي… ثم عبارة عن مكونات رمزية ذات نماذج استدلالية ونماذج لتمثيل المعارف (المنطقية والدلالية). كما نجد أساليب أخرى كالمماثلة والاستحضار والبنيات المتشابهة وإواليات التوازن Pondération والحساب والتواصل والإطارات والمدونات والخطاطات. ونظرا لهذا التنوع فإننا سنقتصر على الحديث عن العناصر الرئيسية التي تميز الذكاء الاصطناعي وهي التمثيل الرمزي والحدسي والبيانات وقواعد المعرفة ومعمارية الجيل الخامس وقياس ذكاء الإنسان وذكاء الحاسوب.
5 .1.التمثيل الرمزي (Représentation symbolique) :
بما أن الذكاء الاصطناعي علما من العلوم الأساسية في المعلوميات الرمزية، فإن برامجه لا تستخدم الأرقام على غرار المعلوميات التقليدية بل تستخدم الرموز. وهذا يناقض البناء الأساسي للحاسوب المرتكن إلى "الصفر والواحد" والتي فيها يحول كل عناصر المعرفة الإنسانية من حروف وأرقام وعلامات خاصة وصور… إلى شفرة ثنائية وفق ترميز محدد يعرف عالميا باسم الترميز العشري الممتد المشفر ثنائيا EDCDEC ، أو الترميز .ASC118 وكلا الترميز ين يرتكن إلى تحويل اللغة إلى مناظر ثنائي من الصفر والواحد، ويتحول كل عنصر معرفي إلى ثمانية نبائط Bits لتشكل ما يعرف بالبايت Byte . وكل نبط لا يتخذ إلا أحد الوضعين وهما واحد أو صفر، مما دعا إلى انتشار مقولة أن الحاسوب لا يتعامل إلا مع نعم أو لا فقط وهو نفس الأمر الذي تميل إلى اتخاذه الخلايا العصبية. ومع هذا، يمكننا التعامل مع مناطق الظلال بين الصفر والواحد وهذا ما أبدعه بول، مما يشير إلى إمكانية التعبير عن الأفكار والتصورات والمفاهيم المعقدة وهذا يتطلب من العلماء تقليد كيف تعالج الخلايا العصبية مناطق الظلال بين الصواب والخطأ.
5. 2.المناهج الحدسية في البحث:
تعتبر مناهج البحث الأعمى في عرضها أو في عمقها مناهج شاملة لكشف الطرق المؤدية إلى العقدة/ الهدف وهذه المنهجية تعطي حلا نسبيا لمشكل كشف الطرق، ومع ذلك، فلا جدوى منها أمام أنظمة الإنتاج في الذكاء الاصطناعي، إذ أن البحث يقوم بتطوير عقد عديدة قبل إيجاد الطريقة (وهذا يحصل غالبا مع الحدود الفيزيائية وقت الحساب وعند التخزين) ولهذا وجب البحث في طرق أخرى ناجعة غير البحث الأعمى. لهذا فإن برامج الذكاء الاصطناعي لا تتوفر على منهج منطقي معروف وبالتالي ليس لها خرائط تدفق يمكن رسمها مثلما نفعل في صياغة البرامج المألوفة على الحاسبات والتي تضمن الوصول إلى حل المشكلة حلا صحيحا.
وما دام لا يوجد حل منطقي محدد، فلابد من اللجوء للحدس أي اللجوء إلى طرق ذات منهجية لكن لا ضمان لنجاحها. ويتمثل الحدس في اختيار إحدى طرق الحل التي تبدو ملائمة مع إبقاء الفرصة متاحة لتجريب طرق أخرى في حالة فشل الطريقة السابقة في التوصل إلى الحل المناسب. والبحث الحدسي أكثر سرعة وأقل تكلفة مقارنة بالبحث الأعمى أو البحث العشوائي، ويعطي حلولا جيدة بدرجة كافية يمكن أن يكون بعضها مقاربا للحل الأمثل. ولأجل هذا لابد من معلومات حدسية information heuristique وإجراءات البحث المتمثلة في المناهج الحدسية في البحث وذلك من أجل اختصار وتقليص وسيلة تكلفة منهج البحث من درجة 2 مثلا إلى درجة 1 على اعتبار أن المنهج المختصر هو 1 وليس 2، وهذا ما يطلق عليه ب"القوة الحدسية" puissance heuristique لحل المشاكل.
3.5. . تمثيل المعارف (Représentation des connaissances):
إن كل إدراج للحقائق المتعلقة بالمشكلة المطروحة للحل في قاعدة بيانات معرفية تماثل قواعد البيانات العادية في الطرق التقليدية "الرمزية" للحاسوب ويتولى التعامل مع قاعدة المعرفةBase de connaissance برامج خاصة مكتوبة بلغة من لغات برمجة الذكاء الاصطناعي ويطلق على هذه البرامج آلة الاستدلال Moteur d inférence.
ويمكن تمثيل المعرفة بسهولة بواسطة لغة بر ولوج حيث لا تستخدم رموزا رقمية بل تستخدم لغة هيكلية لجملة حقائق حول الموضوع المعالج كأن نقول:

إذا كان الجو قارا
و إذا كان الجو صحوا
إذن سيكون الجو جميلا.

بعدد قليل من المعارف لا يمكن لنظام الذكاء الاصطناعي أن يقدم على حل المشكل إلا في حالة الجو المستقر، أي حالة اليوم لا تؤثر في حالة جو اليوم الموالي. وفي حالات أخرى لا يستطيع النظام القيام بالاستنتاج. غير أن التعبير عن تلك الحقائق في برامج الحاسوب الشائعة حاليا يتطلب جهدا كبيرا وعلاقات بينية بين الحقائق، وحتى لو أمكن إدراجها سيكون عسيرا على البرامج التوصل إليها.
وهنا يمكن أن نلاحظ أن أهم مميزات برامج الذكاء الاصطناعي هو الفصل التام بين قاعدة المعرفة وأسلوب ونظام معالجة هذه المعارف. ولذلك فإن نظامه يتكون من ثلاث مكونات رئيسية وهي الاستنتاج والمراقبة والمعارف ،كما يوضحه الشكل التالي الذي يمثل هندسة أنظمة الذكاء الاصطناعي بشكل عام : معطيات أ و ج


قاعدة معارف:
علاقات
إذا أ إذن ب
إذا ب وج إذن د نظام الاستدلال نظام المراقبة
وقائع
أ صادقة
ج صا دقة
جواب: د
.4 . 5.البيانات (Base de Données):
تمثل السمة الرابعة لبرامج الذكاء الاصطناعي في قدرتها على التواصل لحل المشاكل حتى في حالة عدم توفر جميع البيانات اللازمة، وهي حالة كثيرا ما يواجهها الإنسان نفسه في اتخاذ قراراته خاصة في المسائل السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، ويحاول تجريب طرق تقريبية مما يجعل النتيجة غير مؤكدة أو أقل صوابا.
5.5 .قواعد المعرفة والإضافة عليها (Base de connaissances) :
عندما ننظر إلى الحاسوب بصفته أداة عامة لحل المسائل، يبرز سؤال أساسي هو هل المعلومات هي المورد الأساسي لحل المسائل ؟
بعدما ظهر للجميع أن قواعد البيانات الضخمة لا تحل كثيرا من المشاكل، بادر المهندسون إلى بناء نظام أكثر تفوقا ونجاعة من الأنظمة المعتمدة على قاعدة البيانات التي ما هي إلا قوائم معطيات عن مجال ما وليس معرفة بجوهر بنية المجال، ولذلك وجب الاقتداء بحكمة البشر ومعارفهم وخبراتهم في مواجهة المشاكل وطرح بدائل الحلول لها وتقويم هذه البدائل والتصرف أمام المواقف الطارئة.
ظهرت إثر ذلك "الأنظمة الخبيرة" المقامة على قواعد المعارف التي يتم اكتسابها من مصادرها الأولية كالكتب والتقارير الفنية أو من خلال لقاءات مهندسي المعرفة مع الخبراء البشريين لاستخلاص حصيلة خبراتهم بصورة منهجية منطقية يمكن تخزينها، مداومة تحديثها وإكسابها القدرة على التعلم الذاتي من خلال تفاعلها مع ما تتناوله من مشاكل وما تتلقاه من معلومات وخبرات. وعلاوة على ذلك فإن أسلوب قواعد المعارف ذو فائدة كبيرة مثلا في مجال تحديث معالجات اللغات الطبيعية عموما بداية من معاجمها ومستوياتها اللغوية ولتكن لغتنا العربية ضمن هذا الإطار . وما نريده فعلا هو أن نضيف شيئا ما على قاعدة المعارف لتحسين الأداء نتيجة الاستفادة من الأخطاء السابقة، بمعنى أنه كلما توغلنا في حل مشكلة أو مسألة إلا ووجدنا أساليب أنجع في القيام بهذه الحلول وبذلك نكون دائما بصدد الإضافة واختيار الأفضل والأمثل.
5. 6. معمارية الجيل الخامس:
وانسجاما مع ما ذكرناه أعلاه ،هناك اختلافات بين البيانات والمعلومات والمعرفة. فالمعلومات هي نتاج معالجة البيانات والبيانات هي حقائق مجردة دون استنباط العلاقات والمقارنات والمؤشرات ومعاملات الارتباط التي على ضوئها تتخذ القرارات. أما الفرق بين المعلومات والمعرفة فهو أن معظم المعارف استنتاجيه أكثر منها حسابية أو بيانية. مثلا هناك فرق كبير بين معلومات نصوص قانونية وبين استيعاب مضمونها والتعرف على المشاكل وحلها. ويمكن القول أن المعرفة هي محصلة الامتزاج الحقيقي والخفي لعناصر ثلاثة هي المعلومات والخبرة والحكمة البشرية. وتبدأ المعارف حيث تنتهي المعلومات . وهكذا ظهرت قواعد المعرفة لكونها بديلا أرقى لقواعد البيانات.
والجيل الخامس للحاسوب يهدف إلى إحداث نقلة نوعية حاسمة في تصميم نظم الحاسوب، عتادها ونظم تشغيلها وتطبيقاتها حيث يسعى المشروع إلى تطوير حاسوب "ذكي" قادر على التحليل والتأليف والاستدلال المنطقي وذلك من خلال الذكاء الاصطناعي. ومن مجالاته معالجة اللغات الطبيعية والصور وفهم الكلام والقدرة على التعلم والاستنتاج. ومن مميزات أسلوب الجيل الخامس المعمارية هو وجود ارتباط قوي بين العمليات والكيان المادي للحاسب Hard-Ware ومضاعفة عدد وحدات التشغيل إلى حوالي 64000 وحدة على حد تعبير د. هايلس من مؤسسة الآلات المفكرة في جامعة كامبردج جميعها تعمل على التوازي في نفس الوقت . كما يتميز الجيل الخامس بإلغاء وحدة التشغيل المركزية بحيث يتم معالجة المعلومة الواحدة على امتداد الشبكة ثم أيضا عدم برمجة أي عملية تفصيليا مثلما يحدث في الحاسبات الحالية، بل تتم برمجتها بصورة عامة وتتوصل وحدات المعالجة إلى الإجابة المطلوبة أو الهدف المحدد عن طريق الانتقال تلقائيا إلى حلول نهائية مستقرة وليس عن طريق منطق خوار زم محدد.
5 .7.قياس ذكاء الإنسان وذكاء الحاسوب:
إذا قارنا الحاسوب الذكي بقدرات العقل البشري سنجد أن الحاسوب الحالي مزود بوسائل المدخلات input ووسائل المخرجات output ، وهي قادرة نسبيا على فهم جانب من مدركات الإنسان حيث طبقت اختبارات في هذا الشأن وأعطت نتائج لا بأس بها. ومن هذه الاختبارات نذكر:
1. القدرة على معالجة النصوص والحروف.
2. القدرة على معالجة الأرقام.
3. القدرة على فهم منطق لغة.
4. القدرة على التجريد وفهم المشكلة.
5. التقدير السليم.
6. القدرة على التخيل الفراغي.
وقد صممت على أساس الدقة والسرعة، وهي تختلف بنسب متفاوتة مع الإنسان في هذه القدرات وفي سرعة استيعابها وفهمها وتخزينها وإنتاجها بشكل صحيح وموفق.
6.مجالات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته:
على الرغم مما حصل من جدال حول الذكاء الاصطناعي باعتبار أن الذكاء صفة من صفات الإنسان الطبيعية لا غير، وأن لا قدرة للحاسوب على التفكير والتأمل والشعور بالطريقة نفسها التي لدى البشر حيث يقتصر فقط على تلقي الأوامر وتنفيذها حسب البرامج التي تدخل إليه. على الرغم من كل هذا النقاش، فإن للذكاء الاصطناعي ميدان واسع تنطبق فيه أساليبه ومبادئه التي تعتمد القدرة على الإدراك وتفسير النتائج والوصول إلى قرار سليم وحكم دقيق بالاستدلال وإيجاد الحلول المناسبة والموفقة ، مما يجعل صاحب الريادة والسيادة في معالجة أمور شتى قد ينافس فيها الإنسان نفسه، وهذه الإمكانية "النسبية" تتزايد يوما عن يوم بسبب التقدم العلمي والتكنولوجي المذهل الذي أصبح يستخدم العمليات المعرفية الإنسانية للقيام بالبحث والوصول إلى الحل الأمثل وذلك بالاشتغال في العمليات المتصفة بالذكاء وهي كثيرة نظرا لشساعة المعارف والمدارك البشرية. ولأن الذكاء الاصطناعي ينطلق من مبدأ إعادة إنتاج السلوكات الذكية على مستوى الحاسوب فإننا يمكن أن نميز بين صنفين كبيرين منها :

أ. إعادة إنتاج الأنشطة الحسية والوسائط البينية الإنسانية وخاصة الرؤية والسمع والكلام وتوليد وفهم وترجمة اللغة ومعالجة الصورة وتحليلها اعتمادا على معالجة العلامة وتحليل البنيات.

ب. إعادة إنتاج الأنشطة الدماغية العليا وإنتاج الميكانزمات الاستدلالية وتشغيل المعارف، ويظهر هذا في أنظمة الخبرة وأنظمة قواعد المعرفة Système à base de connaissance المتطورة من خلال البرهنة على الخاصيات (صلاحية البرامج المعلوماتية) وأنظمة الحساب الصوري (وليس الحساب الذي يقوم بتحويل العبارات الجبرية المنطقية).
كما يمكن أن نضيف إلى الصنفين المذكورين صنفا آخر يتمثل في الأدوات والمناهج المفهومية و المعلوماتية التي تهدف إلى بناء بنيات "المعرفة" وهي نوعين:
اللغات الخاصة التي يتم بواسطتها صنع الاستدلالات كلغات: LISP و PROLOG و SMALLTALK و FRL و KAS و EMYCIN.
والآلات ذات القدرة العالية على تنفيذ العمليات، وهذه هي الآلات التي يطلق عليها اسم "آلات الذكاء الاصطناعي" Machines pour l IA .
وتمثل الأصناف الذكورة أعلاه وهي الاستدلال والوسائط البينية والأدوات والمبادئ الرئيسية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي كما يظهر من خلال الترسيمة التالية
الاستدلال الوسائط البينية
معالجة الكلام بالحاسوب ترجمة آلية أنظمة الخبرة الرؤية بالحاسوب فهم آلي للغة البرهنة على الخاصيات

مساعد على
البرمجة قواعد معطيات
استنباطية


قواعد المعرفة تمثيل المعرفة
لغات برمجة خاصة
الأدوات آلات خاصة(آلات LISP مثلا)



وللذكاء الاصطناعي مجالات عديدة للاختبار والبحث حسب التصنيف المبين أعلاه، تتوزع فيما بين الأنظمة الخبيرة (في التدبير المقاولاتي وذاكراتها، والفحص الطبي والكيمياء وتكرير النفط والبيولوجيا الذرية وتصميم الخطط وتوليدها واللعب…) والأنسنة الآلية (في الصناعة والبناء والكشوفات الفضائية) والرؤية الآلية (الفضاء والاتصالات والتصوير والاستشعار عن بعد …) ومعالجة اللغات الطبيعية (الفهم الآلي للغة ومعالجة الكلام والترجمة الآلية والصناعة المصطلحية والتعليم والتعلم والإعلام والإنترنت وفن الرسم والموسيقى واستيعاب المعارف وهندساتها…) ومن المجالات التي سنبسط القول فيها شيئا ما: مجال الأنظمة الخبيرة والأنسنة الآلية على أننا سنرجأ الحديث عن ميدان معالجة اللغات الطبيعية حيث سنخصص فصلا خاصا عنه ضمن هذا الباب لما له من أهمية قصوى في هندسة لغتنا العربية وفق قواعد المعرفة وأساليب الذكاء الاصطناعي.
1-6 الإنسان الآلي:
إن محاولة تقليد الأداء الآدمي القائم على قدر من الذكاء كان ضمن تطلعات البشرية عبر تاريخها الطويل، ومن هذا المنطلق يمكن النظر للإنسان تاريخيا عبر تلك الزاوية. فقد صنع اليونانيون القدامى الدمى المتحركة التي تقوم بتصرفات وحركات طريفة تحت وقع أثقال معلقة في أسلاك تمر بالأجزاء المتحركة مثل رقبة بلبل يغرد في توقيت محدد. وعند أقدم كنائس مدينة ميونيخ تخرج من جرف برجها الدمى في تمام الساعة الثانية عشر ظهرا. وكانت تلك الأعمال وما شابهها تعتبر ضربا من السحر إلا أن هذا الوهم قد أزيل عنها. فاليوم تعمل مجموعات الإنسان الآلي على بعد عدة كيلومترات من كنيسة ميونيخ داخل أكبر مصانع السيارات الأوروبية في ظروف سيئة، غاية في القسوة، تلحم بدن السيارات وتدهنها بمختلف أنواع الطلاء حماية للعمال من مخاطر العمل. ويتكرر وجود الإنسان الآلي إضافة إلى ألمانيا في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان ودول أوربا.
والواقع أن إدارة الإنتاج الآلي ليست بالأمر الجديد حيث سبق علوم الذكاء الإنساني بأكثر من قرنين من الزمان، فمنذ ابتكار الآلة البخارية على يد جيمس واط ، استخدمت الحدافة في ضبط أدائها كأول تطبيق عملي لمبدأ التغذية المرتدة feed Back في استشعار وتصحيح الانحراف في المدخلات حتى تواكب المخرجات. وفي عقد الأربعينات شاع استخدام التحكم الآلي في معامل تكرير النفط وفي أبراج التقطير ووحدات التكسير الحراري وما شابه ذلك من آليات ساكنة، وبفضل التغذية المرتدة تمت السيطرة على تدفق الخام والبخار وكبح جماح درجات الحرارة لتظل حول معدلاتها المفترضة دون أي تدخل بشري. وخلال الحرب العالمية الثانية وضع معهد MIT الأسس العلمية والرياضية لتصحيح مسارات ضرب المدفعية والصواريخ، ومنها تطورت ودخلت إلى المصانع والأوراش وبذلك بدأ عصر سيطرة الحاسبات على الإنتاج ودخل الإنسان الآلي ذو الذراع الواحد الميدان.
إضافة إلى MIT تقوم مجموعة من مراكز البحوث المتخصصة في الأنسنة الآلية كمعهد SRI بجامعة ستان فورد وجامعة إدنبورغ وغيرهما بإنتاج روبو قادر على الرؤية وذلك لتوظيفه في الأتمتة الصناعية .
وغير خاف أن تكنولوجيا الإنسان الآلي تنضوي تحت لوائها أمور علمية على درجة عالية من الدقة والتعقيد، أمر يتعلق بالبحث العلمي الأكاديمي المحض هدفه إنتاج وصناعة إنسان آلي يرى ويسمع ويتحرك ويستجيب شأنه في ذلك شأن البشر ثم تطوير وحدات الإنسان الآلي لتلائم ضوابط وقيود وحدود البيئة الصناعية ويعتمد عليها ويعتمد في ربح أعلى وذلك بواسطة طريقتين: طريقة الالتقاط وطريقة الحشر اللتان تنفذا بأوامر برمجية تعتمد الدالة الرياضية لتحديد الأهداف. وكلما زادت البرمجيات تعقيدا كلما استطاعت الوحدات أداء أعمال مركبة ومعقدة بفضل ربطها بوحدة حاسوب له ذاكرة ممتدة نسبيا تتولى إرشاد الإنسان الآلي وقيادة أدائه بسرعة تتصف بالدقة وتكرارية نمطية مستمرة .
وداخل ذاكرة الحاسوب يتم تخزين تشكيلة كبيرة من البرامج بحيث يختار الحاسوب منها البرنامج المناسب وفق مضمون إشارات التغذية المرتدة في النظام.
وتعتبر ذاكرة الحاسوب المدير للآلة محدودة نسبيا إذ لا تستوعب سوى عدد معين من البرامج مما فرض تقليل عدد أوامر كل برنامج إلى حده الأدنى لذلك جاءت الحركات والنقلات العصبية متشنجة وتعمل فرق البحث في المختبرات بتطوير أنظمة تهدف إلى جعل الإنسان الآلي أكثر رشاقة وحركية عما هو عليه في المصنع وذلك بزيادة سعة ذاكرة الحاسوب المدير للآلة.
6. 1.1 الإنسان الآلي ذو الذراع الواحد:
فقد يعتقد البعض أن الإنسان الآلي ذو ذراعين والحال أنه ذو يد واحدة. ولذلك فإن عملية تحريك اليد تتم عبر تحريك عدد من وحدات على امتداد محور اليد. وعملية التحريك هذه تحدد هندسيا بزاوية ودرجة وسرعة مدروسة، وإداريا بمركزية مغالاة في إعطاء الأوامر والتعليمات. وهي تتم وفق مستويات متعالقة بمستويات أخرى، فإن صدرت أوامر للإنسان الآلي "اجمع القطع" بدأ المستوى الثاني في البرامج بإعطاء الأمر (أحضر القطعتين أ و ب ادخل القطعة أ في القطعة ب اربط القطعة ج من الناتج من أ و ب ) ويصدر المستوى الأوامر التنفيذية لإحضار القطع كما أسلفنا وذلك بالاعتبار إلى المحاور الفراغية س، ص، ع .
ويمكن القول عموما أن هناك نوعين من الأوامر المدخلة:
1. مدخلات من المستويات العليا وتعود للإنسان الذي صمم هذه الآلة الذكية.
2. تغذية مرتدة من مستويات هابطة وهي توصف الحركة والحالة الزمنية حتى تكون الحركات متوافقة أدائيا.
وقد صمم علماء جامعة ستانفورد إنسان آلي أطلق عليه اسم "شاكي" يكتسب قدرة عالية من التصرف الذاتي حيال الكم الهائل من المعلومات ومزود برؤية تلفزيونية ملونة وقدرة على تحليل بيانات الصور بفضل ربطه فنيا وهندسيا عبر دوائر إلكترونية مع شبكة حاسوب عملاق، يحدد أضلاع وزوايا المبنى والغرف وتعرف السطوح وتحلل المجسمات والعوائق حتى ينفذ ما أمر به.
.2 .1-6 الرؤيا الآلية:
تعتبر مشكلة الرؤيا في الإنسان الآلي مشكلة جد عويصة لذلك عزم العلماء على حل هذه المشكلة تحقيقا لحلم الإنساني الآلي الذكي. ومازالت هذه الأحلام في بدايتها الأولى لأن الإنسان مزود بتلقائية طبيعية وبلا تردد بشبكات إدراكية للنظر والسمع والشم بالغة التعقيد . لذلك يعتقد العلماء أن ابتكار الزوج "الإنسان- الآلي" يستدعي تطوير تكنولوجيا متطابقة جدا مع السلوكات البشرية من فهم للعلامة اللغوية وغير اللغوية وتأويلها تأويلا مجازيا. بعبارة أخرى، إبداع آلة تقوم بإنتاج الإشارة والكلام والرؤيا والسمع في نفس الوقت وهذا ما شغل بال العلماء منذ الثمانينات . وفي هذا الإطار طورت آلة تتخطى العقبات –إلى حد ما- وهي مزودة بنظام يعالج الأرقام والقيم الممثلة لشدة الإضاءة والأطياف حيث كل رقم يمثل وحدة تفريق في الصورة pixel، ومن المعالجات يستخلص الحاسب الشكل العام للمنظر . كما استفادت الأبحاث بعد ذلك بمختلف الإشعاعات المتطورة وغير المنظورة والموجات فوق الصوتية .
ويبقى المشكل الأعقد قائما ما دامت العوائق البيئية من شجر وصخور وعربات ومباني وحيوانات غير معروفة لدى الإنسان الآلي، ولأجل عدم الاصطدام بها وجب عليها تحديد مواقعها في المنظور المجسم بحيث يمكن قياس البعد والاتجاه. وكل صورة يقوم الحاسوب بالتعرف على شكلها تختلف قليلا عما سبقها مما يتطلب تزويد الإنسان الآلي بحسابات سريعة ذات قدرة على تخزين بيانات هائلة.
ومن الأبحاث من اقترحت تزود الإنسان الآلي بتسع عدسات تنتج تسع صور. وهذا يتطلب حاسوبا ذو ذاكرة قوية ولا نهائية على اعتبار أن أشكال الكون المتطورة هي لا نهائية وغير متطابقة تطابقا تاما كما تؤكد الأبحاث العلمية ذلك.
ورغم أن الحاسوب لازالت أمامه تحديات التعرف على الأشكال فإنه الآن موجود ومعتمد في مجموعة من الوحدات الإنتاجية الصناعية والبحثية. وتمتلك اليابان معظمها والباقي موزع في مختلف بلدان العالم وخاصة أوربا وأستراليا، وهو يستخدم في صناعة السيارات والحاسبات نفسها وفي الفلاحة وتربية الماشية والبناء وتنظيف المفاعلات النووية والحراسة والدفاع وغيرها.
أما صناعة إنسان آلي يساعد الإنسان في مختلف أنشطته فلازالت محط أبحاث ودراسات نظرا لتعقيدات التواصل الإنساني المختلفة والمتنوعة من كتابة وكلام وفن وتأمل لجميع الأشياء المنظورة في الواقع حيث يقوم الإنسان بمعالجتها من أول وهلة وإشارة بصرية بسيطة.
2-6 .الأنظمة الخبيرة:
تعتبر الأنظمة الخبيرة إحدى المجالات الحيوية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وهي امتداد طبيعي لقواعد المعرفة صممت على أساس حزمة برامج تساعد الإنسان في مواقف يحتاج فيها إلى خبرة أهل الرأي والاختصاص. فهي تضم إلى جانب البيانات والمعارف الخبرات الشخصية للخبراء كل في مجاله لذلك نجحت في مجالات شتى اقتصادية وبحثية وعلاجية طبية واستراتيجية….
والحال أن هذه الأنظمة بنيت على أساس نمذجة أساليب المشكلة وطرحت تفسيرات لحلها على غرار ما يقوم به الخبير في مجاله. فهي تعتبر بمثابة النتائج التي أدت إليها أبحاث الذكاء الاصطناعي في إيجاد الحلول للمشاكل المعقدة غير المحصورة . وتعتمد هذه الأنظمة في عملها على القواعد والحقائق أو الوقائع. فالقواعد هي المادة الأساسية لأجهزة الخبرة وبرامجها مما يستدعي لإنشائها عدة أمور منها أساسا:
أ. جمع الحقائق العلمية المؤكدة عن موضوع الخبرة.
ب. مناقشة الخبير الإنسان بما اكتسبه من معارف وخبرات عن تجربته ونشاطه ثم مراجعة هذه الخبرات مرات عديدة وتحديد ما يجب إدراجه للنظام الخبير.
ت. وعبر قاعدة بيانات خاصة يتم دمج الحقائق والقواعد وهذه القاعدة تسمى بقواعد المعرفة وفق قواعد محددة تتمثل في استخدام الجملة الشرطية (إذ… حينئذ) مثال: ( إذ يسقط المطر حينئذ يوجد سحاب) وتسمى بقواعد الإنتاج أي القواعد التي تتم بها عملية الاستنتاج والاستنباط وهي تضيف وقائع أخرى لقاعدة الحقائق Base de faits.
وجملة القواعد الحاكمة للنظام الخبير هي حزمة من البرمجيات تدعى آلة الاستدلال التي تعمل على استغلال قواعد المعرفة بطريقة من الطرق التي تؤدي بالاستدلال حول مشكلة مطروحة بحسب محتوى قاعدة الحقائق. وآلة الاستدلال هذه تحتوي على خوار زم للتصفية يسمى pattern-matching يقوم بفحص مقدمات القواعد عن طريق الوقائع الموجودة في قاعدة الحقائق وهذا النظام للتصفية يعتمد منطق القضايا ومنطق المحمولات لبحث الحقائق والقيام بالاستدلال. فإذا أخطر النظام الخبير بأن الفصل الجغرافي هو فصل الشتاء وأن الشجر يحمل أوراقا فإنه يستنتج أن الشجر من النوع الدائم الخضرة، بعدها يحاول تطبيق القاعدة على الأشجار الخضراء بالبحث في قاعدة المعرفة عن شكل الأوراق والثمار، وهكذا إلى أن يتوصل إلى النتيجة.
ومن العناصر الأساسية لنظام الخبرة قواعد المعرفة لأنها تضم الحقائق المحددة في مجال الخبرة، كما تضم القوانين والقواعد والضوابط التي يستخدمها النظام في صياغة قراراته وخياراته قاعدة "المعرفة" وهي القاعدة الوحيدة للنظام لهذا تسمى أحيانا بالنظم القائمة على المعرفة (S à BC) . وعلاوة على كون الاستدلال آلة فإنه حزمة برامج لها ضوابط ومنطق تولد بها معرفة جديدة تضاف ثانية إلى قاعدة المعرفة، وهذا يعني أن للنظام قدرة على الإجابة عن أسئلة المستخدم بشكل ما، كما لو كان أمام أسلوب استدلالي في التفكير الإنساني. فهو يجمع بين أسلوب البحث الخلفي وأسلوب البحث الأمامي محاولا إعطاء تفسير وحل للمشكلة.
وثمة مسألة أساسية في هذا النظام وهي إعادة إنتاج المعارف والخبرات المتخصصة على مستوى الآلة عبر مجموعة من الوحدات والحزم أبرزها: وحدة اللغة الطبيعية التي هي برنامج بين المتلقي وبين النظام لصياغة المخرجات بلغة يفهمها المتلقي إضافة إلى وحدة الشرح التي تفسر ما أمكن من الاستدلال عنه ووحدة الصياغة والاتصال التي تقوم بالحذف أو التعديل أو الإضافة. على هذا الأساس ترى أن القدرة الإنجازية للنظام تنافس إلى حد ما القدرة الإنجازية للخبير البشري.
2-6. 1.مجالات عمل الأنظمة الخبيرة:
على الرغم من كثرة تطبيقات هذه الأنظمة في شتى المجالات في حياتنا اليومية إلا أن ما تم توظيفه فعلا في الاستخدام اليومي لحد الآن يعد محدودا.
وهكذا يبرز نشاط الأنظمة الخبيرة في أعمال القطاع الطبي والصحي لما له من حساسية اتجاه صحة الإنسان فنجد نظام MYCIN الناجح في تحديد العديد من أمراض الفيروسات و ABEL في تشخيص الاضطرابات العضوية، وأنظمة أخرى في نفس المجال على سبيل المثال لا الحصر كنظام ANGY و BABY و BLUEBOX و COLT و VIDAL و VM و SAM و SPHINX . أما في القطاعات الأخرى فنسوق مع بوني وهاتون وتريو نكوك مجموعة من الأنظمة الخبيرة كما يلي: في مجال التأمين والمالية FOLIO و في اللسانيات والبيداغوجيا APHODEX الذي طور من قبل CRIN وهو نظام خبير لفهم اللغة الفرنسية. وفي مجال التعليم ICAI وفي الجيولوجيا PROSPECTOR و CESSOL وفي المعلوميات KBPA و DEC و XCON(R1) وفي مجال الإنتاج والصناعة SOJA و VLSI و TECTON وفي الطيران CEI وهو نظام ربان مساعد ذكي لقيادة الطائرة. وفي الزراعة AQ11 و ARPEGE و الكيمياء DENDRAL و SECS وفي المجال العسكري SCSP و في مجال الإدارة XSEL و XCON و VAX وفي مجال الهندسة وعلومها نجد NPPC و REACTOR و SACON و STREAMER. أما مجال الفضاء كميدان استراتيجي فتم فيه تطوير مجموعة من الأنظمة ذات أهداف تدبيرية للأقمار الاصطناعية في أوربا مثلا نظام ESD و COGNITECH و CRI و MBB/ERNO و CNES (وهو نظام لإصلاح الأعطاب التي تلحق الأقمار الاصطناعية) وXX-CDMS و GIOTTO/AOCMS و CEAGES أما في الولايات المتحدة فيمثل فيها مركز الأبحاث الفضائية NASA المركز الدولي الذي يقوم بتطوير النظم الخبيرة بتعاون مع مجموعة من الجامعات تبحث في استيعاب المعارف ومعمارية المسارات الرمزية وتمثيل الاستدلالات في الأنظمة الخبيرة ومن بين أنظمته المتطورة نظامي KAOS و HORSES .
ومن أنشطة الأنظمة الخبيرة معالجة كثير من المشاكل بشرح وتفسير النتائج ومعالجة البيانات من قاعدة المعرفة كما تتولى هذه الأنظمة السيطرة على جميع الأنشطة في نظام إنتاجي أو صحي أو بشري كيفما كان، وأبرز المجالات التي يقوم فيها بالسيطرة والتحكم مجال المفاعلات النووية والطب بواسطة قيود وشروط لازمة للتحكم والملاحظة. وتقوم الأنظمة الخبيرة أساسا بالأعمال التالية : تشخيص الأعطاب والتصميم VAX مثلا، وإزالة التلف (عند التشخيص عادة في الكيمياء والطب والأنظمة الإلكترونية) وأغراض التشخيص والتدريب والتعليم وأغراض التفسير و الشرح… .
ويمكن القول أن بالرغم من عدم إحلال هذه الأنظمة محل الخبرة الإنسانية في كل المجالات فإنها تتميز بتطوير أداء المتخصصين ذووا خبرة متوسطة، وأنها السبيل الوحيد لإمدادنا بالخبرة عند غياب الخبير الإنساني، وأنها قادرة على منح البرمجة بعدا جديدا بإدخال القواعد البديهية والمعرفة الحدسية الخبيرة، وعلى توظيف مستوى عالي من الخبرات مما يجعلها قادرة على ترك حرية التساؤل للمستخدم حول اتخاذ القرار أو عدم اتخاذه بشأن مسألة ما.
3- 6 معالجة اللغات الطبيعية :
يمكن القول هنا، أن معالجة اللغة آليا يدخل في إطار علم مخصوص وليد التطورات التكنولوجية المتقدمة ألا وهي اللسانيات الحاسوبية linguistique computationelle مجالها البحثي دقيق وجديد يعرض لآخر النظريات والتطبيقات الحاسوبية المجربة على جميع اللغات الطبيعية. فهذا ميدان أقرب إلى العلوم الصلبة منه إلى العلوم الإنسانية، كما يمكن أن نطلق عليه اسم العلوم الإنسانية الصلبة les sciences humaines dures مقابل العلوم الإنسانية المرنة، يلتقي فيه الجانب النظري اللساني بكل خلفياته المعرفية والمنهجية والجانب التقني المعلومياتي بكل تطوراته ليصوغ بذلك ما اصطلح عليه بالهندسة اللسانية Génie linguistique أو تكنولوجيا اللسان les technologies de la langue وهو ما أصبح يمثل اليوم قمة المعرفة البشرية" .

ومما يجعل نظام لغات البشر أكثر ارتباطا بالتكنولوجيا المتقدمة هو ذلك التطور العلمي الذي أصبح الآن يفرض نفسه بإلحاح شديد على المهتمين والباحثين اللسانيين على أن يتوجهوا إلى فهم كنه عمل واشتغال النظام اللغوي في دماغ الإنسان.
وقد لا يجادل أحد في كون الدماغ البشري مزود بنظام خاص يقوم بتخزين اللغة واسترجاعها وهو مبني على شكل آلة لها دخل ولها خرج. ففي الدخل حيث التحليل analyse هناك قواعد بيانات يتمرس عليه الإنسان لتحصل لديه التجربة اللغوية. هذه التجربة هي الأساس الذي تنجز عليه الآلة "الذكية" نسق الخورارزمات الذي يقوم بخزن اللغة في الدماغ على شكل قوانين حسابية صورية، وهذا هو معنى الكفاية اللغوية أما مرحلة الخرج حيث عملية التوليد Génération فيتم فيها إنتاج اللغة واستقبال إشاراتها وتحليلها قبل عرضها على الخوار زم . بمعنى آخر، إنه ذلك المستوى الذي يقوم بإنتاج لانهائي للإرساليات اللغوية تمهيدا لعملية التواصل. وما يعبر عنه بمفهوم النحو ما هو إلا عملية إنتاج خوارزمي يقوم بها الدماغ، إنه ذلك الكلي الذي يطبع جميع عمليات الإنتاج المعرفي اللغوي من أصوات وصرف ومعجم وتركيب ودلالة في جميع اللغات الطبيعية في شكلها الثباتي لا الأدائي/ الإنجازي الخاص بلغة معينة.
إن هذا التوجه الذي يميز اللسانيات المعاصرة والمتمثل في البحث فيما هو كلي لهو جدير بفهم جوهر اشتغال اللغة كعمليات معرفية عامة لدى الإنسان والتي هي الآن قيد التجريب والبحث العلميين سواء فيما يتعلق بتحديد مركز محرك للغة في الدماغ أو فيما يتعلق بتحديد الكفاية اللغوية.
وإذا كانت اللسانيات النظرية والصورية قد توصلت إلى تحديد الكفاية اللغوية في الدماغ البشري ،فإن التقنيات الحاسوبية ليست إلا وسيلة لتجريب مكونات هذه الكفاية التي يفترض أنها مبنية على منظومة من المعادلات المكتوبة بلغة برمجة منطقية صورية مجردة، وهذا ما جعل أهل الذكاء الاصطناعي ومهندسي الآلات الذكية يقيمون إنجازهم هذا على فكرة تقييس ونمذجة الدماغ البشري في جانبه الإبداعي والإدراكي والمعرفي عموما، وخاصة وأن الجزء الأكبر من المعرفة الإنسانية موجود في نصوص لغوية ولابد للحاسوب من طريقة حتى يتمكن من التعامل مع النصوص اللغوية لاستخلاص هذه المعرفة.
من هذا المنطلق فتحت أبحاث علوم الذكاء الاصطناعي الباب واسعا أمام علماء اللسانيات وعلماء الحاسوب لفهم مكون الكفاية اللغوية في الدماغ أولا، وثانيا لبناء كفاية صورية خوارزمية تقوم بإنتاج اللغة على مستوى الآلة، لذلك أصبح الآن ممكنا تصور حوار إنساني آلي بلغة أقرب ما تكون إلى اللغات الطبيعية التي يستخدمها الإنسان في حواره مع ذويه من البشر ، ومن هنا أيضا تأتي أهمية برمجيات اللغات الطبيعية. ووفق التصورات المذكورة، هذا ما سعى إليه العلماء بإنشاء أنظمة الفهم الآلي للغة الطبيعية (N.L.U.S) وأنظمة المعالجة الآلية لها (N.L.P) مطبقة على اللغات الطبيعية في مستوياتها الصرفية والتركيبية والدلالية المتعاملة مع قواعد المعرفة كما يظهر من خلال مكينة المعجم وبناءه آليا والترجمة الآلية ومعالجة النصوص وتعليم اللغة آليا وذلك في إطار المشروع اللساني الحاسوبي العالمي .
خلاصة:
إذا كان تورينغ العالم الذي بشر بنظرية الأوتومات التي منحت فيما بعد إمكانية ابتكار آلة تحاكي في قدراتها كثيرا من قدرات الإنسان الفكرية والدماغية، وإذا كانت علوم الذكاء الاصطناعي منذ باباج وماكارثي وسيمون وغيرهم قد تقدمت كثيرا وبشكل مثير بحيث أصبحنا نتحدث عن تكنولوجيا للذكاء الاصطناعي توظف في جمبع الميادين الحياتية للإنسان من أنسنة آلية وأنظمة خبيرة ومعالجة الصور والتعرف على الأشكال باستخدام مختلف مسارات الاستدلال وتطوير هندسات المعرفة ومعالجة جميع مدركات الإنسان الرمزية ! إذا كان الأمر كذلك فإن أكبر تحدي ملقى على عاتق الذكاء الاصطناعي الآن بالإضافة إلى الرؤية الآلية هو معالجة الأنظمة الرمزية المعقدة لدى الإنسان، معالجة تدرك المدركات وتعالج الخيالات، ومنها طبعا اللغة الطبيعية والكلام. وما الدخول في مشروع معمارية الجيل الخامس إلا خير دليل على ما تلعبه اللغة من موضوع طموح لهذه التكنولوجيا المتقدمة، في السعي أولا إلى إنجاز حاسوب ذكي فعلا حينما يكون حاسوبا لغويا في بنيته ونظامه وتطبيقاته يقوم بالتحليل والتركيب ويميز ما بين الأصوات ويولدها ويحلل النصوص ويؤلفها وذلك بهدف بناء أنظمة آلية متطورة تساعد الإنسان على إنتاج معرفة رمزية تكون أساس الحضارة الإنسانية بكل ما يحمله الاصطلاح من معاني .


هوامش ومراجع
باحث في اللسانيات الحاسوبية وعضو الجمعية الفرنسية للذكاء الاصطناعي
دكتور أحمد عزت راجح، أصول علم النفس، يقرؤه المعلم والأخصائي والاجتماعي وطالب الفلسفة. المكتبة المصرية الحديثة للطباعة والنشر. ص. 390.
نفس المرجع والصفحة.
نفس المرجع والصفحة.
يعتبر Alfred Binet أحد العلماء الذين ابتكروا قياس الذكاء المعبر عنه ب QI
"Quotient intelligence" وهذه القاعدة تطبق حين يراد اختبار مستويات الذكاء لدى الإنسان والحيوان( أنظرRecherches. N²283.Janvier 96. P.71 )
Pierre.L. Roubertoux et Michèle Cartier. Le QI est-il- héritable ? in Recherche N² 283. Janvier 96. P.70
Elizabeth Spitz , les jumeaux bien dociles, in recherches N²283. P.70
دكتور فاخر عاقل، علم النفس، دار العلم للملايين. بيروت. ص.400.
نفس المرجع. ص.402.
نفس المرجع والصفحة.
نفس المرجع. ص.403.
تقول هذه النظرية أن كل فاعلية عقلية تشتمل على عامل عام تشترك فيه مع كل الفعاليات العقلية الأخرى، كما تشتمل على عامل خاص بها لا تشترك فيه مع أي فاعلية أخرى. وتعتمد هذه المدرسة على تطبيق الاختبارات السيكولوجية المختلفة ومعالجة النتائج بطرق إحصائية تهدف إلى تحديد العوامل الأولية المؤلفة للذكاء والشخصية.
نفس المرجع. ص. 413.
نفس المرجع. ص. 432.
LENY. J. F. (1989) P.2.
- علي فرغلي، علم اللغة والذكاء الاصطناعي، وقائع الندوة الدولية الأولى لجمعية اللسانيات بالمغرب. منشورات عكاظ 1987 ص. 215.
نفس المرجع والصفحة.
16 B. DUFAY. L’intelligence Artificielle. Question de langage. Edition .P.U.F. PP.15
C.H. DOMINE. Techniques de l’intelligence artificielle. Un guide structure. Paris 1988. E. DUNOD. P. 16.
د. م. محمد بنهان سويلم، الذكاء الاصطناعي (دراسة حول المفاهيم). مجلة عالم الفكر. م 24. ع.1و2. 1995. ص.255
Georges Vignaux. 1992. P.13.
نفس المرجع والصفحة.
نفس المرجع والصفحة.
C.H. DOMINE. 1988. P.2
نفس المرجع والصفحة.
J.G. Ganascia. L’Intelligence Artificielle (Technique et Science des machines). DOMINOS FLAMMARION. Collection dirigé par Michel SERRES. P.26.
نفس المرجع والصفحة.
نفس المرجع. ص28.
نفس المرجع والصفحة.
مقولة القياس مقولة يونانية (ANALOTICA) وهي عنوان أحد كتب أر سطو التي تقع ضمن أورغانونه، قام الفيلسوف بن رشد بشرحه وتلخيصه. ومعناه الشيء عنه الفحص والمنفعة. فالفحص عن القياس هو من أجل الفحص عن البرهان، واما المنفعة فهو حصول العلم البرهاني في جميع الموجودات على أتمها في طباعها على أن تحصل للإنسان. ومقدمة القياس هي قول سالب وآخر موجب فهي إما كيفية (كلية جزئية مهملة) موجبة أو سالبة، وإما كمية (كلية جزئية مهملة) موجبة أو سالبة. ومن جهة المادة تنقسم المقدمة إلى برهانية وأخرى، جدلية وتستعمل سائر المقاييس في جميع أنواع الخطابات مما يجعلها مقولة منطقية قادرة على صورنة الأشكال الإنسانية الرمزية والفكرية وبالجملة فهي كل تصديق يقع في كل صناعة (للمزيد من الاطلاع أنظر كتاب القياس لابن رشد.تحقيق د.محمود قاسم.الهيئة المصرية العامة للكتاب 1983). ونظرا لأهمية هذه المقولة في الخطاب الطبيعي فإن جورج بول لم يشأ إلا أن يختارها لكي يصورن بها بعض جوانب الفكر الإنساني في جانبه الاستدلالي وهذا سيكون له وقع كبير في بلورة حاسوب ذكي (فيما بعد) يقوم بمعالجة جميع الأشكال الرمزية لدى الإنسان ومنها اللغة وفق أساليب الذكاء الاصطناعي.
تمثل الموصلات المدمجة الوحدة المركزية في الحاسوب، فهي مجموعة من المكونات الإلكترونية مرتبطة فيما بينها بواسطة رابطات مرسومة على بطائق مربوطة بمساعدة أغلفة عتاد الموصلات، وقياسها حوالي مليمتر مربع قد لا ترى بالعين المجردة، ولكنها قد تكتشف بالمجهر وقد وضعها المهندسون واحدة فوق الأخرى بشكل منظم. وقد كانت هذه الروابط في الحواسيب التقليدية الثقيلة عبارة عن غابة من الموصلات الإلكترونية، إلا أن التطور الإلكتروني أتاح للحاسوب أن يكون خفيفا نظرا لصغر حجم هذه الموصلات.
نفس المرجع السابق ص.32-33.
C.H. DOMINE. (1988). P:3.
N. CHOMSKY. G.A. MILLER, L’analyse formelle des langues naturelles, traduction de PH. RICHARD & N. RUWET.(1968).Gauthier-Villars Mouton. P.93.
نفس المرجع السابق ونفس الصفحة.
نفس المرجع السابق .ص:37.
نفس المرجع والصفحة.
C. H. DOMINE. (1989). P.4
نفس المرجع. ص:5.
نفس المرجع. ص6.
نفس المرجع. ص:8.
د. محمد بنهان سويلم، الذكاء الاصطناعي (دراسة حول المفاهيم)، مجلة عالم الفكر. م.24. ع 1 و 2. 1995. ص:254.
C. H. DOMINE. (1989). P.9
نفس المرجع . ص: 11.
نفس المرجع والصفحة.
قاسم حبيب جابر، الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته العلمية، مجلة الفكر العربي. ربيع 97. ع:88. ص:93.
Guitta Pessis. PASTERNAK. Faut-il- brûler Descartes? Edition la découverte (1991) P.198
نفس المرجع السابق . ص: 93.
إن كل مراحل المعلومات التقليدية الثلاث: المعلوميات العلمية ومعلوميات التدبير ومعلوميات التواصل تطبعها خاصية واحدة هي أن موضوعاتها المشغلة على مستوى بنياتها الداخلية توظف الأرقام وليس الرموز اللغوية وغيرها وهذا ما يميز المعلوميات الرمزية عن سابقاتها.
د. محمد. بنهان سويلم، الذكاء الاصطناعي، عالم الفكر. م: 24. ع: 1 و 2. سنة 1995. ص:260.
Nils. J. NILSSON. Principes d intelligence artificielle. Traduit de l’Anglais par Anne et Michel Manage. Edition CEPADUES. P:69.
Bruno DUFAY. L’intelligence artificielle. Question de langage. P.59.
نفس المرجع. ص: 57
نبيل علي، الجيل الخامس ومعالجة اللغة العربية آليا، مؤتمر الكويت الأول للحاسوب. 29 مارس 1989 . تحرير احمد بشارة بسجل وقائع المؤتمر. ص:21.
د. محمد. بنهان سويلم، الذكاء الاصطناعي، عالم الفكر. م: 24. ع: 1 و 2. سنة 1995. ص:263.
نفس المرجع والصفحة.
C.H. DOMINE (1988) P:16.
منذ أواخر السبعينات تم تطوير مفاهيم ومناهج أساسية للذكاء الاصطناعي وتطبيقها لحل مجموعة من المشاكل كمعالجة اللغات الطبيعية وبناء الأنظمة الخبيرة وتوليد الخطط والتعلم والتعليم الذكي وهندسة المعارف والفهم الدلالي للغات الطبيعية والترجمة الآلية وتمثيل المعارف وكل هذا تطلب بناء أنظمة ذكية مرتكزة على المعرفة (SIBC) وهي أنظمة أشمل وأعم من الأنظمة الخبيرة لأنها تهتم كذلك بالأنظمة التربوية الذكية وأنظمة مسائلة قواعد المعطيات باللغة الطبيعية للمزيد من الاطلاع أنظر: W.J. BLACK Les Systèmes intelligent basés sur la connaissance. Traduit de l anglais par H. de FERAUDY. Edition Masson . Paris 1988.
نفس المرجع السابق. ص:17.
Massachusetts Institute of technology.
Nils.J. Nilsson. Principes d IA (1988) P.13.
معظم الوحدات الميكانيكية المسماة "الإنسان الآلي" تجاوزا تعتمد طريقتين في العمل: طريقة الالتقاط وهي مد الذراع لتأخذ الآلة بأصابعها المعدنية قطعة ما من مكان معين والطريقة الأخرى هي حشر وتركيب القطعة الملتقطة في مكان أخر محدد أيضا.
د. محمد نبهان سويلم، الذكاء الاصطناعي، مجلة عالم الفكر. م:24. ع: 1و2. سنة 1995.ص 278.
نفس المرجع. صفحة 279.
Nils.J. Nilsson. Principes d IA (1988) P.7.
Joëlle Coutaz, L art de communiquer à plusieurs voies. In rechérche.N²285 spécial: l ordinateur au doigt et à l oeil.Mars 1996. P.39
تقدم وكالة أبحاث الدفاع الأمريكية المتقدمة Dappa دعما ماليا هائلا لحل مشكلة الرؤية بغية صناعة آلات أرضية ذاتية الحركة.
149 «l"intelligence artificielle» Encyclopédie Microsoft ® Encarta ® 99. ©1993-1998. Microsoft corporation . Tous droits réservés.
150 Alain Bonnet et al. Systèmes Experts, vers la maîtrise technique. Inter Editions. (1991) P.46.
نفس المرجع والصفحة.
نفس المرجع. الصفحات 87-113.
يطلق عليها أيضا اللسانيات المعلوماتية (linguistique informatique) وهو مصطلح ذو مرجعية فرنسية في حين أن اللسانيات الحاسوبية (computational linguistics) فهو مصطلح ذو مرجعية أنجلو-سكسونية.أما نحن في العربية فعادة ما نوظف مصطلح اللسانيات الآلية.
دكتور محمد الحناش، اللغة العربية والتقنيات المعلوماتية المتقدمة، وقائع المؤتمر الدولي الثاني، مجلة التواصل اللساني. المجلد الثالث. سنة 1996. ص.5.
دكتور محمد الحناش، استخدام اللغة العربية في تقنية المعلومات، مجلة التواصل اللساني. سلسلة الندوات .ا
Partager cet article
Repost0
Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article